السعال الديكي… داء لم ينقرض بعد !!

 


السعال الديكي… داء لم ينقرض بعد !!


 


 


طفلتي الصغيرة عمرها أربع سنوات. هي مصابة بسعال شديد. منذ حوالي الأسبوع بدأت لديها أعراض مختلفة. فهي أصيبت بسيلان الأنف، وبحرارة خفيفة. عانت أيضاً من احتقان شديد في عينيها اللتين أصبحتا حمراوين لدرجة كبيرة. ومنذ يومين بدأ لديها سعال شديد. قمت بأخذها إلى غرفة الإسعاف الليلة الماضية، وقد أجرى لها الطبيب بعض الفحوص منها صورة للصدر، ولم يجد شيئاً. عندما تصاب بالسعال أخاف عليها كثيراً، فسعالها غريب. هو سعال جاف شديد، يشبه ترتيبه الرشاش الميكانيكي!! فهي تسعل عدة مرات بشكل متتالٍ ثم تتوقف عن السعال وبعد ذلك تتقيّأ. وأثناء السعال يبرز لسانها وتجحظ عيناها. لم أر في حياتي شيئا يشبه هذا الأمر. لابد وأنها مصابة بمرض غريب أنا لا أعرف ماهو. ما يطمئنني قليلاً هو أنها أخذت جميع لقاحاتها، وهذا يجعلني أعلم أنها ليست مصابة بتلك الأمراض الشديدة التي تؤدي إلى السعال. فهي  أخذت لقاح السعال الديكي خمس مرات حتى الآن على سبيل المثال مما يجعل احتمال إصابتها بالسعال الديكي أمراً معدوماً. وبطبيعة الحال فهذه الأمراض الشديدة مثل السعال الديكي هي أمر قد ولّى زمانه في البلدان الغربية المتقدمة. هذا الأمر يطمئن قلبي من جهة ولكنه يزيد من حيرتي من جهة أخرى. وهذا سبب قدومي إليك يا دكتور. هذه المرة الأولى التي نزور فيها عيادتك أنا وطفلتي، وأرجو أن تتمكن من الوصول إلى الحل لمعضلتي.


 


تصحيح


 


قلت للسيدة الكريمة: قبل أن نصل إلى حل لمعضلتك يجب أن أقوم ببعض التصحيح لما قلته الآن.


 


قالت: تفضّل!


 


 ــ  السعال الديكي مرض لم ينقرض بعد لا في العالم الغربي ولا في العالم الشرقي ولا في العوالم بينهما. وفي حقيقة الأمر فالسعال الديكي هو أوّل ما خطر في بالي عندما كنت تذكرين الأعراض التي تعاني منها طفلتك.


 


 *  لعلني لم أشرح الأمر جيداً لك يا دكتور. لقد قلت لك منذ قليل إن طفلتي قد أخذت خمس جرعات من لقاح السعال الديكي منذ ولادتها حتى الآن.


 


 ــ  ولكن هذا لا يعني شيئاً!!


 


 *  لا يعني شيئاً؟ هل تريد أن تقول لي إن جميع هذه اللقاحات التي أخذتها في  عيادات الأطباء، وجميع الوخزات التي عانت منها كانت دون سبب أو فائدة؟


 


ــ  أنا لم أقل هذا. ولكنني أريدك أن تعلمي أنه لا يوجد لقاح في الدنيا يحمي من المرض بنسبة مئة بالمئة. وهذا الأمر يتجلّى بشكل واضح في موضوع  السعال الديكي. دعيني أشرح لك الأمر بعد أن أفحص صغيرتك فحصاً كاملاً.


 


 


 


 


 الفحص الطبي


 


بعد أن قمت بفحص الطفلة (هناء) قلت للسيّدة الكريمة. في واقع الأمر فإن علينا أن نجري بعض الفحوص المخبرية لنفي السعال الديكي. فأنا أعتقد أن طفلتك مصابة به.


 


 قالت: ما الذي جعلك تعتقد أكثر أنها مصابة به بعد أن قمت بفحصها؟


 


 قلت: إن طفلتك تعاني من سعال نموذجي يماثل ما يحصل في السعال الديكي، ويضاف إلى ذلك أن صدرها نقيّ تماماً في الفحص أي أنه خالٍ مما ندعوه في الطب الوزيز وما ندعوه بالخراخر الصدرية. إضافة إلى ذلك فإنها غير مصابة بارتفاع الحرارة. إن كل هذه  الأمور توحي بوجود هذا المرض. وما يجب علينا أن نفعله الآن هو أن نجري بعض الفحوص المخبرية كما ذكرت لك. وأهمها زراعة لمفرزات الأنف والبلعوم.


 


 *  وكيف أصيبت ابنتي بالمرض؟


 


ــ  إن كان الأمر هو  السعال الديكي فعلاً فلعلها أصيبت بالعدوى من طفل آخر أو من إنسان بالغ آخر.


 


 *  وهل يصاب الكبار بالمرض؟


 


 ــ  بالتأكيد!!


 


 *  ولكننا نعلم أن السعال الديكي هو مرض يصيب الأطفال فقط.


 


 ــ  هذا مما يمكن أن ندعوه بالــ (أساطير) التي تحيط بأي مرض. لقد كوّن الناس يا سيدتي معتقداتهم الخاصة بشأن كل مرض من الأمراض من الحصبة إلى  الحصبة الألمانية إلى الــ ….. سعال الديكي!! وهكذا فإنهم يظنون أن ما كوّنوه من معتقدات هوالحقيقة. وفي الواقع فإن الحقيقة أبعد ما تكون عما يعتقدون.


 


 *  وما الحقيقة؟


 


 ــ  إن الحقيقة في موضوع السعال الديكي هي أن المرض يمكن أن يصيب الناس في أي عمر من الوليد إلى المسن. ولذلك فإننا قد نجده في عنابر المواليد كما أننا قد نجده في منتجعات التقاعد سواء بسواء.


 


*  وهل هذا المرض مرض قديم؟


 


 ــ بالتأكيد!


 


 


 


 


السعال الديكي


 


 


مرض السعال الديكي كان قد وصف بشكل تام منذ عام 1500 ميلادية تقريباً، وإن كان أول من استخدم تسمية (السعال الديكي) هو (سيدنهام) Sydenham في عام 1670. ويسبب المرض نوع من الجراثيم الذي يدعى (بورتدلا) Bortedella التي تنتمي إلى طائفة تدعى (العُصوّرات)Coccobacilli أي أنها بين المكورات والعصيات، وبالتالي اكتسبت هذا الاسم الغريب. ولعل من المهم لمن يعتقد أن هذا المرض قد انقرض أن يعلم أنه لا تزال هنالك 60 مليون إصابة في العالم كل عام تؤدي إلى نصف مليون وفاة كل عام. وهذه الأرقام تجعل هذا المرض أبعد ما يكون عن الانقراض في الفترة  الحالية. وفي مرحلة ما قبل اللقاح (1922 ــ 1948) كان المرض من الأسباب الرائدة للوفاة في العالم. وبعد أن تم ابتكار اللقاح وتطبيقه بشكل واسع نقص حصول المرض بنسبة 99% وهذا أمر ممتاز. ولكن المرض لم يتوقف عن الحصول حتى في بلاد متقدمة كالولايات المتحدة  الأمريكية والدول الغربية مثل ألمانيا وإيطاليا وغيرها. ففي الولايات المتحدة الأمريكية مثلاً، تحصل 7500 حالة مثبتة كل عام. وعندما نقول حالة مثبتة فإننا نعني بها حالة مشخصة ومرسل بها تقرير إلى مركز الأمراض والوقاية. ويعتقد أن عدد الحالات يتجاوز هذا الرقم.


 


 


التشخيص والمعالجة


 


إن تشخيص السعال الديكي يقوم أوّلاً على القصة السريرية والفحص الطبي، وثانياً على الفحوص المخبرية. إن أهم الفحوص المخبرية إطلاقاً هو زرع مفرزات الأنف والبلعوم. ويجب أن نعلم أن هذا  الزرع يجب أن يتم بأيدٍ خبيرة. فجمع العيّنة يحتاج إلى خبرة خاصّة، وكذلك نقلها وزراعتها. ولذلك فيفضل أن يتم ذلك في المشافي التخصصية، خشية أن يضيع التشخيص. وأما المعالجة فتتم من خلال تناول مضادات حيوية خاصة. وفي كثير من الأحيان نضطر لقبول الطفل إلى المستشفى لإنجاز العلاج، وخصوصاً في الرضّع وفي الحالات الشديدة في أي عمر. فالموضوع يتضمّن العناية  التمريضية ومراقبة التنفس والإشباع الأوكسجيني في الدم، إضافةً إلى إعطاء الأدوية الملائمة، وكل هذا يحتاج إلى مستشفى متخصص.


 


 


هناء


 


سألتني الأم: وهل ستقبل ابنتي (هناء) إلى المستشفى.


 


قلت: سأقوم الآن بأخذ المفرزات من أجل الزراعة وسأبدأ بإعطاء  المضادات الحيوية، وسأطلب منك أن تراقبيها بحذر، وفي حال لاحظت ازدياد الأعراض أو حصول صعوبة في التنفس، فإن عليك أن تخبريني فوراً لأنني سأقوم بإرسالك إلى المستشفى حينها. أما في الوقت الراهن، فبإمكاننا أن نقوم بمعالجتها في المنزل. ولا بد من أن تقومي بمراجعتي غداً من أجل المتابعة.


 


الشفاء


 


بعد أيام قليلة كانت خلالها هناء تراجعني في العيادة من جديد مع والدتها، دخلت الأم والطفلة إلى عيادتي. هناء كانت ضاحكة في سعادة, وأمها كانت باسمة.


 


 قلت للأم: أراكما سعيدتين!!


 


 قالت: نعم. هناء اليوم في حالة ممتازة والحمد لله. كان لديها سعال خفيف جداً ليلة أمس ولكنها لم يمنعها من النوم. وهي  اليوم تطلب مني أن نذهب إلى حديقة الحيوانات!! هذه علامة جيدة على الشفاء.


 


 قلت للأم: هذه علامة طيّبة. واريد أن أذكر لك أن نتيجة زرع المفرزات قد عادت اليوم من المستشفى وهي تثبت أن طفلتك مصابة فعلاً بالسعال الديكي. واختبارات التحسس الجرثومي تثبت أن الجراثيم لديها تستجيب للمضاد الحيوي الذي أعطيتها إياه. وما يثبت ذلك أيضاً استجابتها الممتازة للعلاج. وهنا سألت هناء. قلت لها: أي الحيوانات تحبين أن تريه في حديقة الحيوانات؟


 


 قالت: الديناصور!!!


 


 أجابتها أمها قائلة: هناء… ماذا تقولين؟ لقد ذكرت لك بالأمس أن الديناصورات هي حيوانات انقرضت وولّى زمانها. ثم التفتت الأم إليّ قائلة. كنت أظن أن السعال الديكي داء منقرض، ولكنني تعلّمت الآن أنه ليس مرضاً منقرضاً. كم أتمنى أن يأتي اليوم الذي يصبح فيه السعال الديكي مرضاً منقرضاً كالديناصورات تماماً. ألا توافقني في هذه الأمنية يا دكتور؟!!


 


 

Close Menu