(أدب الصبحيّات) والمدارس الطبية وحليب الأطفال!!

 


 


(أدب الصبحيّات) والمدارس الطبية وحليب الأطفال!!


 


 


كان يدهشنا عندما كنا على مقاعد الدراسة الإعدادية والثانوية نوع خاص من الأدب احتل مكانة مستقلة وقائمة بذاتها بين جميع الآداب العربية يسمى (أدب المهجر). وإن كنت ــ ولا زلت ــ من محبي الأدب والمندهشين بروائعه دائماً. إلاّ أنني عدلت عن رأيي وحوّلت اهتمامي من أدب المهجر إلى أدب جديد لم أكن أعرف أنه موجود إلاّ بعد أن بدأت  ممارسة الطب!


 


هذا الأدب الجديد سأزعم لنفسي  الحق في كوني أوّل من أطلق عليه هذا الاسم في تاريخ النقد الأدبي والطبي المعاصر. وهو (أدب الصبحيّات)!! 


 


لديّ اعتقاد جازم بأن معظم الشرور في مجتمعنا العربي تحصل في (صبحيّات) النساء!


تجتمع النساء في ساعة الصباح ويتناولن ــ مع مناقيش الزعتر واللحم والجبن ــ  جميع المواضيع من السياسيّة إلى الاجتماعية إلى أن نصل ــ  بطبيعة الحال ــ  إلى مواضيعهنّ  المفضّلة وهي المواضيع الطبيّة.


 


وفي حال حضور واحدة من (الجدّات) المحترفات اللاتي قمن بتربية سبعة أطفال فما فوق، فإن قراءة محاضر الاجتماع تصبح أكثر متعة من قراءة كتاب الإمتاع والمؤانسة. وكنت قد نويت أن أؤلّف كتاباً أسطر فيه كل ما يروى لي عن هذه الجلسات بشكل يومي من خلال الأمّهات. وقد اخترت له عنواناً (مبتكراً) هو (المستطرف من كل فن مستظرف) ولكنني اكتشفت بمحض الصدفة أن الشيخ شهاب الدين محمد بن أحمد  الأبشيهي قد سبقني منذ عدّة قرون وخطف هذا العنوان مني. وهكذا ضاعت عليّ هذه الفرصة الذهبية. وأصبح لزاماً عليّ أن أجد عنواناً آخر.


 


كنت أتمنى فعلاً أن تقوم السيّدات بتنويع مواضيع أحاديثهن في الصبحيّات كما يشأن، فالمواضيع ممتعة فعلاً، وأن يقمن بالابتعاد  عن المواضيع الطبيّة. فأنا أظل مستمتعاً بكل ما أسمع بشأنها إلى أن يصل الأمر إلى المقررات الطبية التي تصدر عن مثل هذه الاجتماعات، فأصاب عندها ــ عندها فقط ــ بتعكّر المزاج.


 


ومهما أسهبت وأعدت الأحاديث بشأن (الآراء) و (المقترحات) و (الأبحاث) التي تصدر عن هذه (الصبحيّات) فإنني أظل مقصراً بالفعل في حقها. ومهما ظننت أنني سمعت جميع الأحاديث والغرائب والمبتكرات، فإن القرارات الجديدة لا يمكن أن تخفق في إحداث الدهشة لديّ. كيف يمكن للخيال أن يصبح مجنّحاً بهذا الشكل؟ وكيف يمكن للسوريالية أن تختلط بالطب فتنتج الأعاجيب؟ وتؤدي إلى حصول طلبات وآراء و(مدارس) طبيّة مغموسة بالغرابة غمساً؟


 


 


مثال!


 


آخر مثال من هذه المدارس الطبية سمعته اليوم. إحدى السيّدات أتت إليّ بطفلها الذي يبلغ عمره ثلاثة أشهر (نعم أشهر وليس سنوات أو عقود مثلاً) وقالت لي بلهجة الواثق التي لا يخالطها أي مزاح ــ صدّقوني ــ إنها قررت أن (تستأصل لوزتي طفلها) المسكين. ولو أن الأم كانت تتكلّم عن قص شعر طفلها أو أظافره لكانت تكلّمت عن الموضوع بجدية أكثر. سألتها: وهل تعتقدين أن اللوزتين عبارة أن أظافر تريدين أن تقصيها؟ وهل تعتقدين أن الأطباء سيهرعون إلى تنفيذ (أوامرك) دون أي نقاش وكأنها أمر عسكري في ميدان الحرب؟ وبعد حوارية لم تكن طويلة أبداً تبيّن أن قرار استئصال لوزتي طفلها الرضيع صدر عن آخر الصبحيات التي حضرتها السيّدة الكريمة. وحاولت طبعاً بكل ما أوتيت من قوة أن أشرح لها كيف أن هذا الأمر غير وارد مطلقاً، ولكن ماذا أفعل وقد أتت السيّدة إلى عيادتي بفكرة مسبقة  الصنع؟ وكيف يمكن لي أن أقنعها بشيء معاكس لما ورد في القرار النهائي للصبحية التي حضرتها؟ وأحب هنا أن أعترف بأنني لم أستطع أن أغير رأيها قيد أنملة!


 


مثال ثانٍ!!


 


سيّدة أخرى أحضرت طفلها الذي يبلغ من العمر شهرين إلى عيادتي وروت لي بأسى عما تعرّضت له من لوم في آخر (صبحيّة) حضرتها من قبل أركان المجلس الطبي للصبحية لأن طفلها الصغير مصاب بالسعال. وهم يلومونها ويلومون طبيبها الذي لم يقم بإعطائها دواءً للسعال. وعندما شرحت لها أننا لا يمكن أن نعطي طفلاً بهذا العمر دواء السعال وأن هذا الأمر هو حديث الساعة في الولايات المتحدة الأمريكية مع أنه ليس حديثاً جديداً ولكن موضوع قديم تم تجديده، لم  تقتنع السيّدة بكلامي، وأجابتني : أريد حلاً!!


 


مثال ثالث!!!


 


سيّدة ثالثة أتت إلى  العيادة غاضبة لأنني حتى الآن لم أصف لطفلتها البالغة من العمر سنتين (آلة الربو) مع أنها مصابة بالسعال منذ ثلاثة أيام. وعندما قلت لها إن (آلة الربو) أو ما ندعوه (المرذاذ) أو (آلة الرذاذ) ليس شراباً للسعال وإنما آلة تخصصية لها استطباباتها ومعاير وصفها ولا يمكن أن نقدمها ملفوفة بورق الهدايا للأطفال. أخبرتني أن إحدى (دهاقنة) الصبحيات أخبرتها ــ وهي سيّدة خبيرة ــ أنه لا حلّ لمشكلة طفلتها سوى (آلة الربو) وإن هرف الطبيب لما لم يعرف!!


 


 


مثال يومي!!!!


 


وهنالك مثال يومي أعتقد ــ بخبرتي المتواضعة ــ أنه ربما كان الموضوع المفضّل لمعظم (الصبحيات) التي تم عقدها مؤخراً، وهو موضوع حليب الأطفال!! وعندي ظن أن تسعاً من كل عشر حالات يتم عرضها في المجالس الصحية (للصبحيات) تكون نصيحة (النطاسيّات) فيها بتغيير الحليب!!


 


إذا تقيّأ الطفل مرّة فإن النصيحة تأتي بسرعة من الخبيرات: غيّري له الحليب!! وإن عطس، أتاها الحل سريعاً: غيّري له الحليب! وإذا قالت لهن إن الطبيب رفض أن يغيّر له الحليب، أتاها اقتراح أجمل: إذاً غيّري الطبيب!!


 


ولو أننا أخذنا بقضية تغيير الحليب في كل مرة يتقيّأ فيها الطفل أو يبكي أويصاب بالإسهال، لما ظل طفل على وجه الأرض إلاّ وتم تغيير الحليب له. وفي واقع الأمر فإن جميع الأطفال (أعني تماماً 100% منهم) سيصاب حتماً ببعض هذه الأعراض المذكورة أو كلّها. وهذا الأمر طبيعي، فالجهاز الهضمي لدى الطفل لا يكون ناضجاً بما فيه الكفاية بعيد  الولادة ويحتاج الأمر إلى ثلاثة أو أربعة أشهر قبل  أن يحصل الاستقرار. وليس معقولاً خلال هذه الفترة أن نسارع إلى تغيير الحليب. علماً بأن تغيير الحليب ــ بحد ذاته ــ يؤدي إلى مشاكل أخرى يعاني منها الطفل. فحليب الصويا على سبيل المثال ــ وهو أكثر أنواع الحليب شعبية عندما يقوم الأهل بتغيير الحليب ــ يؤدي إلى مشاكل خاصة به وأهمها الإمساك الشديد الذي قد يؤدي إلى حصول ألم شديد لدى الطفل. والأنواع  الأخرى من الحليب كالحليب المُحــَلـْمـَه (نتراميجين و أليمنتوم) طعمها كريه جداً يمجّه الطفل إضافة إلى أن (الحلمهة) التي يتعرّض لها هذا الحليب والتي يتم بموجبها تفتيت الجزيئات البروتينية ليصبح هذا الحليب  أسهل هضماً، يتم استخدام إنزيمات الخنزير فيها وهذا بحد ذاته مشكلة. ولو أن الاتجاهات الطبية الحديثة في (الصبحيّات) أخذت علماً بهذا الأمر لغيّرت تفكيرها ــ لا شكّ لديّ في هذا!!


 


  


 


نداء عاجل


 


(الصبحيّات) أصبحت تشكل مشكلة طبية في مجتمعنا. وإذا كانت كل مشكلة تحتاج إلى حل، فأنا أحببت أن أدلي بدلوي المتواضع في محاولة لتقديم حلول أرجو أن تكون ناجحة ناجعة. وسأتقدم ببعض الاقتراحات.


 


أوّلها أن تشترك كل (صبحية) بمجلة طبية علمية رصينة وأن يصبح النقاش الطبي محصوراً في قراءة مقال يتم اختياره بالانتخابات الحرة ثم تقرؤه أكثر السيّدات خبرة وتجرى حوله حلقة بحث.


 


وثانيها أن يتم إرسال سيّدة من كل (صبحية) لدراسة الطب لتعود وتشرح لزميلاتها ما يقوله الطب فعلاً في المواضيع المختلفة.


 


وثالثها  أن تقوم حكيمات الصبحيات بتناول جميع المواضيع الاجتماعية والفكرية والأدبية والسياسية، وأن يتركن ــ ولو مؤقتاً ــ  المواضيع الطبية جانباً، وأنا شخصياً أفضّل هذه الحل الأخير لأنه سيتيح لنا كأطباء من جميع الاختصاصات أن نمارس عملنا بهدوء ودون تشويش يومي ودون أسئلة واقتراحات غريبة نمضي نصف وقتنا في العيادات بالإجابة عليها بدلاً من أن نركز وقتنا وجهدنا بالعناية بمرضانا. فهل هنالك من يسمع النداء؟ 


 


 


 


 


 


 

Close Menu