التسمم بالرصاص وحديث الأرقام!

  


التسمم بالرصاص وحديث الأرقام!


 


قلت للأم بعد أن قمت بالفحص الدوري لطفلها الذي أتم عامه الأوّل وبعد أن قمت بإعطائه لقاحاته المخصصة لهذا العمر: إن من المطلوب اليوم أن نجري اختبارين دمويين، أحدهما يهدف لنفي وجود فقر الدم لديه ويرمي الآخر للتأكّد من عدم وجود التسمم بالرصاص.


 قالت لي مذعورة: ولماذا تشك بوجود التسمم لدى طفلي؟ هل لاحظتَ أية علامة من علامات التسمم؟ ثم إنه لم يتناول كمية كبيرة من أي دواء حتى تشك بوجود التسمم لديه…. فلماذا تجري هذا الاختبار اليوم؟ أنا لا أعتقد أن إجراءه ضروري!!


ــ  لا توجد لدى (علاء) أية علامة من علامات التسمم بالرصاص أو غيره، ولكنني أحب أن أقول لكِ ــ وهذا حديث ألمحنا إليه سابقاً ــ إن هنالك اختبارات تجرى على أساس (وقائي) أي أنها تجرى روتينياً دون أي سبب والهدف منها نفي وجود المشكلة حتى في حال عدم وجود أي سبب يدعو للشك بوجودها. واختبار مستوى الرصاص في الدم واحد من أهم الاختبارات التي تجرى روتينياً في الولايات المتحدة، والجهات  المختصة تتطلّب إجراء هذا الاختبار بعمر سنة وهذا ما أفعله في عيادتي.


 *  بصراحة هذه أول مرة أسمع فيها عن التسمم بالرصاص. فمن أين يأتي هذا التسمم وما هي أعراضه وكيف يعالج في حال اكتشافه؟


ــ  هل سمعتِ بالحديث ذي الشجون؟


 *  نعم…. في إحدى المناقشات الصاخبة التي بثتها مرة فضائية عربية!


  ــ حديث الرصاص هو مثال للحديث ذي الشجون، فهل تحبين أن تسمعي القصة؟ أنا أقترح في الواقع أن نبدأ حديثنا بالحرب العالمية الثانية!


 * ماذا؟!


 


الحرب العالمية الثانية


 كان التسمم بالرصاص مشكلة كبرى في الولايات المتحدة الأمريكية منذ عقود. بل إن أسوأ أشكال التسمم مثل (اعتلال الدماغ بالتسمم بالرصاص) كانت موجودة. ولقد أثار انتشار المشكلة اهتماماً كبيراً لدى الأطباء وعلماء البيئة والمختصين بالصناعة والوقاية. وبدأت دراسات موسّعة للبحث عن سبب المشكلة. ولقد استنتجت الدراسات الطويلة أن أهم مصادر التسمم كانت وقود السيارات وطلاء المنازل… ففي الفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية كان الرصاص يدخل كمادة رئيسة في طلاء المنازل. ولقد بدأت الإجراءات الفعّالة للتخلّص من هذه المشكلة في السبعينات من القرن الماضي ومنها القانون الذي صدر في عام 1978 بمنع استخدام مادة الرصاص في طلاء المنازل كما صدر في تلك الفترة قانون (الهواء النظيف) Clean Air Act  الذي فرض مواصفات خاصة لعوادم السيارات حتى يسمح باستخدامها، كما أصبح وقود السيارات ــ كما تلاحظين في محطات البنزين ــ خالياً من الرصاص. هذه الإجراءات أدّت إلى انخفاض هائل في انتشار مشكلة التسمم بالرصاص. ويكفي أن نعلم مثلاً أن معدّل مستوى الرصاص في المجموع العام للسكان في أمريكا  عام 1980 (أي بعد أن تم حل المشكلة نسبياً) كان 12 ميكروغرام في الدسيليتر . قد تدهشين لهذا الرقم ولكنه حقيقة.


 *  بصراحة الرقم لا يدهشني أبداً فأنا لا أعرف مدلوله!


 ــ  آسف … فقد ذكرت لك الرقم دون شرح ولكنني سأشرح لك مستويات الرصاص ومدلولاتها بعد قليل. على كلٍِ … ففي عام 1991 وبعد أن انتشرت الأساليب الوقائية بشكل ملحوظ أصبح معدل مستوى الرصاص في أمريكا حوالي 3 ميكروغرام. وهو مازال في انخفاض.


المشكلة موجودة


*  أفهم من كلامك أن مشكلة التسمم بالرصاص قد انتهت.


ــ  لا للأسف، فالمشكلة ما تزال موجودة.


 *  وكيف يبقى التسمم بالرصاص موجوداً إذا كانت الإجراءات القانونية قد سدّت عليه كل الطرق؟


 ــ  الإجراءات القانونية سدّت الطرق الهامة ولكن لا تزال هناك طرق فرعية يصعب التغلّب عليها. لدينا مثلاً البيوت التي بنيت قبل عام 1978 وهي لا تزال تحوي آثاراً من الرصاص في طلائها القديم وهذه البيوت يمكن تنظيفها وإعادة طلائها ولكن لا يمكن التخلّص نهائياً من آثار الرصاص كما أن القانون لا يقضي بهدم هذه البيوت لانتشارها الكبير. ثم هنالك بعض المواد المستوردة مثل مساحيق التجميل التي تحضرها بعض الجاليات من آسيا والفيتامينات المستوردة من الهند. ويضاف إلى ذلك بعض الأواني الخزفية ــ المستوردة أيضاً ــ فإن الطلاء البورسليني الذي تحويه بعض هذه الأواني قد يحوي الرصاص أيضاً. وتوجد في أمريكا أيضاً بعض البيوت التي تستخدم فيها أنابيب مياه رصاصية تؤدي إلى التسمم.وهنالك أيضاً الأطفال الذين تم إحضارهم من بلاد أخرى (مثل كوريا والصين) ثم حصل تبنيّهم من قبل عائلات أمريكية واحتمال التسمم لديهم عالٍ لأن بلادهم الأصلية ليست فيها قوانين مماثلة لما يوجد في أمريكا. وهنالك أيضاً حالات خاصة كأولئك الذين يمارسون هواية تلوين الزجاج والذين يعملون في معامل الرصاص ومصانع الأواني الفخارية  فهؤلاء معرّضون بشكل واضح للتسمم. ونضيف إلى ذلك أن الملوّثات الصناعية تحتوي أحياناً على آثار من مادة الرصاص.  تلاحظين إذاً أن المصادر الكبرى للتسمم قد تمت السيطرة عليها ولكن هنالك ثغرات لا تزال موجودة وتصعب السيطرة عليها وبالتالي فإن الجهود لا تزال تبذل لتحري التسمم بالرصاص ومن بينها اختبار الدم الذي سنجريه اليوم لطفلك (علاء).


الأعراض


*  ولكن ما هي الأعراض التي تحصل في حال وجود المشكلة؟


 ــ  هي متعددة ومتنوّعة منها صعوبة التعلّم لدى الطفل واضطرابات السلوك (كفرط النشاط) وتأخّر النمو وأذية السمع. هذه الأعراض موجودة عادةً في الأطفال المصابين أما في الكبار فيمكن أن يحصل ارتفاع الضغط الشرياني وأذيات مختلفة للكليتين والمعدة والجهاز العصبي (حيث يمكن أن يحصل التهاب دماغ أحياناً).


حديث الأرقام


*  لقد ذكرت لي منذ قليل أنك ستعطيني أرقاماً تبيّن فيها المستويات الخطرة من الرصاص، فماهي هذه الأرقام؟ وما هو المستوى الطبيعي للرصاص في الإنسان؟


  ــ  إننا قد نتمكّن أحياناً ــ حتى في الأحاديث العلمية ــ من تجنّب الحديث بالأرقام الدقيقة ،أما في موضوع التسمم بالرصاص فإن هذه الأرقام هامة ولا بد من ذكرها بدقّتها لأن هذه الأرقام هي التي تحدد أسلوب المعالجة.


 عندما يكون مستوى الرصاص دون الــ 10 ميكروغرام في كل ديسيليتر من الدم (أي 10 سنتمترات مكعّبة) فإن الرقم يعتبر طبيعياً.


 وعندما يتجاوز رقم 10 فإن الأمر يعتبر تسمماً بالرصاص. على أن للتسمم درجات كما ذكرنا.


فإذا كان الرقم بين 10 ــ 14 فهو يعتبر تسمماً خفيفاً ويوجب الإعادة وتحري منزل الطفل وبيئته.


وعندما يكون بين 15 ــ 19 فهو أيضاً تسمم خفيف ويوجب إضافةً إلى ما سبق تثقيف الأهل بشأن التسمم .


 وعندما يكون بين 20 ــ 24 فإنه يوجب نقل الطفل إلى منزل مختلف واستشارة أخصائي أمراض الدم.


 وعندما يكون بين 24 ــ 54 فإنه يوجب نقل الطفل إلى منزل مختلف وإجراء اختبار يسمى (إدتا) فإذا كانت إيجابياً فلا بد من المعالجة بمادة لاقطة للرصاص تسمى (إدتا).


 وإذا كان بين 55 ــ 69 فإننا نعالج بالـ (إدتا) أو بمادة أخرى اسمها (دمسا) دون أن نجري أي اختبار.


 أما كون المستوى فوق 70 فيوجب قبول الطفل إلى المستشفى والمعالجة الفورية المركّزة فهذه ــ في عرف الأطباء ــ حالة إسعافية عاجلة.


 وقلت: هل تكفي هذه الأرقام؟!


ولم تجبني الأم ولكنها أخذت طفلها وهرعتْ خارجةً من العيادة.


 قلت: إلى أين تذهبين؟


 قالت: إلى أقرب مخبر!


 


الحمدُ لله ثلاثاً!


بعد أيام قليلة وصلتني نتنيجة اختبار الرصاص عند (علاء) واتّصلت بالأم التي كانت قد هتفت للعيادة كل يوم عدة مرات منذ تم سحب الدم وأخبرتها الموظّفات أن الاختبار يحتاج إلى عدة أيام قبل أن تصدر نتيجته.


 قالت لي الأم: طمئنّي! ماذا كانت نتيجة الفحص؟


 قلت: طبيعية!!


 *  وهل هذا جواب يا دكتور؟


 ــ وكيف يكون الجواب؟


 *  أخبرني هل كان الرقم دون الـ 10 أم بين الــ 10 ــ 14 أم بين الــ ……


 ــ  الرقم عند علاء هو 2 !!!


*  الحمد لله ثلاثاً… أوّلاً لأن نتيجة الاختبار عند (علاء) كانت طبيعية، وثانياً على قانون (الهواء النظيف) ….


 ــ  وثالثاً؟


 *  وثالثاً على انتهاء عصر الحرب العالمية الثانية!!

Close Menu