الناعور(الهيموفيليا)…. عندما يميع الدم!!!

 


 


الناعور(الهيموفيليا)…. عندما يميع الدم!!!


في غمرة انشغال العالم وقلقه تجاه أمراض تخثر الدم أي تجلّطه المؤدي إلى الاحتشاءات القلبية والدماغية وغيرها، وفي حمى تناول الأدوية المميعة للدم والمانعة لتخثره (وأشهرها الأسبرين طبعاً)…. أقول … ربما نسي الناس ــ في هذه المعمعة ــ  أن هنالك أمراضاً تنجم عن نقص تخثر الدم. ولعل أشهر هذه الأمراض هو مرض الناعور. هو مرض نادر ولكنه موجود، ومن المهم أن نفهمه. وقبل أن نفهمه فإن علينا الإلمام ــ ولو قليلاً ــ بعملية التخثر في جسم الإنسان.


 


التوازن الإعجازي


قليلٌ منا من ينفق أي وقت في التفكّر في معجزة اسمها الدم! هذا السائل الأحمر الذي ينقل الأوكسجين والمغذيات الأخرى إلى أعضاء الجسم، ثم يعيد ثاني أوكسيد الكربون(والسموم الأخرى) من الأعضاء ليتم تنقيتها من خلال الكلية والرئتين وأعضاء أخرى عديدة. ليس في المقام متسع بطبيعة الحال للكلام عن وظائف الدم الواسعة بشكل هائل. ولكننا نخص الآن عملية التخثر. فمن المشروع تماماً أن نسأل كيف يسيل هذا الدم ويسري في العروق (أدق العروق) بانسيابية كاملة ودون كلل أو ملل في حالات الصحة، ثم إنه في حال حصول جرح بسيط يتحول الدم ــ الذي يجري أوّل الأمر خارج العروق ــ إلى خثرة تشكل سدادة تمنع المزيد من النزف. ثم تتحوّل إلى قشرة صلبة تنتهي في النهاية بشفاء الجرح. إن صحة الدم ــ من وجهة النظر هذه ــ قائمة على توازن عجيب بين التخثر والميوعة ومن خلال تفاعلات معقدة جداً.


 


 التخثر


إن عملية تخثر الدم تقوم على ثلاثة أطوار لا مجال لذكرها ولكنها تنتهي بتشكل مادة تسمى Fibrinأي (الليفين) وهي التي تؤدي إلى تشكل الخثرة التي نعرفها.


 وإن العناصر التي تساهم في التخثر هي عديدة جداً، ويعرف منها ثلاثة عشر عاملاً رئيساً إضافة إلى عوامل أخرى ثانوية. وكل عامل من العوامل يحمل رقماً واسماً. فهنالك العامل الأوّل ويسمى (الفيبرينوجين) والثاني ويسمى (البروثرومبين)  وهكذا إلى أن نصل إلى العامل الثامن ويسمى (العامل المضاد للناعور) والعامل التاسع ويسمى (عامل الكريسماس) إلخ.


 ويقابل هذه العوامل المساعدة على التخثر عوامل أخرى مضادة للتخثر أو حالة للخثرة عديدة منها ما يسمى البروتين S والبروتين C.


 إن التفاعل والتقابل والتعاكس بين عوامل التخثر والعوامل الحالة للخثرة هي عمليات تؤدي في نهايتها إلى التوازن الذي يسيل الدم من خلاله في العروق بانسياب تام، والذي يتخثر الدم من خلاله كالسحر في حال حصول الجروح. وبطبيعة الحال فإن من المستحيل أن نقوم في عجالة كهذه بالحديث عن عملية التخثر بأكملها فهذا أمر يحتاج إلى صفحات طويلة ولا تكفيه سطور  مختصرة كهذه. ولكن هذه المقدمة كانت ضرورية تماماً للتعريف بالمرض الذي نتحدث عنه اليوم وهو (الناعور).


 


الناعور الكلاسيكي


إن الناعور الذي سنتحدث عنه اليوم هو الناعور الكلاسيكي  الأشهر بين فئة كاملة من الأمراض المتميّزة بعيوب في تخثر الدم والتي  تسمى بمجموعة الناعوروالتي تتجلّى أعراضها بالنزف بعد الرضوض أو العمليات الجراحية أو دون أي سبب على الإطلاق.


 ونعني بالناعور الكلاسيكي ما يدعى (الناعور آ) الناجم عن نقص العامل الثامن (المضاد للناعور) علماً بأن هنالك ما يدعى (الناعور ب) أي داء الكريسماس الناجم عن نقص العامل التاسع وأيضاً (الناعور ج) الناجم عن نقص العامل الحادي عشر إلخ.


 وإن سبب اختيارنا للناعور الكلاسيكي هو ببساطة كونه الأكثر شيوعاً بين هذه الأمراض حيث يشكل حوالي 85% من جميع حالات الناعور في العالم. وإن لحالات الناعور الكلاسيكي درجات مختلفة، فكلما كان النقص في العامل الثامن للتخثر شديداً كلما كان المرض أكثر شدة. فإذا كان لدى المريض 25% من الكمية الطبيعية للعامل الثامن فإن المرض يعتبر خفيفاً، بينما إذا كان لديه أقل من 1%  من الكمية الطبيعية فإن المرض يعتبر شديداً. وبين هاتين النسبتين هنالك درجات أخرى أيضاً.  


 


تشخيص المرض


من المعروف أن الناعور هو مرض وراثي تنقله الإناث ويصاب به الذكور. والسبب في ذلك عمليات وراثية خاصة ناجمة عن انتقال هذا المرض بشكل مقهور على الصبغي الجنسي ولاننوي أن نقوم هنا بشرح هذه العملية أو معاني هذه المصطلحات، ولكن كل ما يعنينا هو أن النتيجة هي أن الإناث في أية عائلة يلعبن دور الناقل لهذا المرض إلى الجيل القادم، وهن لا يصبن بالمرض بل يصاب به الذكور، إلاّ في حالات خاصة جداً لا مجال لذكرها الآن  (منها أن يكون الأب مصاباً بالمرض والأم حاملة له).


 وفي حال وجود قصة عائلية للمرض فإن الطبيب سيقوم بفحص الوليد الذكر لتشخيص المرض، أما في حال عدم وجود قصة عائلية فإن التشخيص سيتم في المستقبل من خلال ملاحظة النزف الذي لا تتم السيطرة عليه بسهولة. وربما تمت ملاحظته عند إجراء عملية الختان  أو عند ظهور الأسنان حيث يلاحظ نزف شديد غير متلائم مع هذه الأمور التي تمر عادة دون أي نزف يذكر في الأطفال الطبيعيين. ونذكر هنا أن القصة العائلية موجودة في 70% من حالات الناعور، أما في الــ 30% الباقية من الحالات فالأمر هو عبارة عن تشخيص جديد قد يكون ناجماً عن طفرة.


 


النزف الداخلي


في حالات الناعور الشديد فإن النزف الذي يحصل قد يكون نزفاً داخلياً، وأشيع أماكن حصوله هي المفاصل حيث قد يحصل نزف عفوي دون أي سبب، أو ناجم عن رضوض بسيطة. وربما حصل تندّب في المفاصل ناجم عن النزف، مما يؤدي إلى تشوّهات وبالتالي إلى عجز في المفصل مع تكرر النزف فيه وتراكم الندبات. وإن أشيع المفاصل إصابة هي الركبة والكاحل والمرفق. وفي بعض الحالات يحصل نزف ضمن العضلات أيضاً وهو يؤدي بدوره إلى تحدد واضح في الحركة. وفي حالات أخرى  قد يلاحظ المصاب وجود الدم في البول بسبب نزف كلوي. أما نوعا النزف الأكثر خطورة فهما النزف البلعومي والنزف الدماغي، حيث أن الأوّل قد يؤدي إلى الاختناق والثاني قد يؤدي إلى أذية دماغية.


 


المعالجة


يعالج الناعور (آ) بنقل العامل الذي يؤدي نقصه إلى المرض، وهو العامل الثامن. حيث يحقن هذا العامل في الوريد تماماً كما يحصل حين نقل الدم. وبوساطة العامل الثامن تتم معالجة حالات النزف بكل أشكالها حيث يقوم الطبيب بتقدير الكمية التي يمكن أن تفيد في مثل هذه الحالات. كذلك يستخدم العامل الثامن بشكل وقائي قبل الإجراءات التي يتوقع أن تؤدي إلى النزف مثل الختان وقلع الأسنان وحتى إعطاء اللقاحات للمريض في بعض الأحيان. وقد يوصي الطبيب بإعطاء اللقاحات على شكل حقن تحت الجلد بدلاً من إعطائها في العضل.


 


الاستشارة الوراثية


في أي مرض وراثي  فلابد من اللجوء إلى الطبيب الأخصائي بالأمراض الوراثية والذي قد يجري دراسة كاملة للعائلة ويقدم النصح بشأن الزواج في المستقبل، أي زواج الأطفال واجتناب زواج الأقارب من العائلة المصابة بالمرض. إن التقدم الهائل الذي طرأ على علم الوراثة في السنوات الأخيرة مكّن الأخصائيين من تقديم نصائح عالية النفع للعائلات تجنـّبها الكثير من المشكلات في المستقبل.


 


كلمة أخيرة


إن داء الناعور هو من الأمراض قليلة الانتشار لحسن الحظ، ولكن قلة انتشاره أدّت إلى نقص واضح في معرفة الناس بخصائصه والهدف من هذه السطور إلقاء بعض الضوء على جوانبه الرئيسة. إن تقدم الطب جعل معالجة حالات النزف الناجمة عن هذا المرض أكثر يسراً وفعالية، كما أن تقدم علم الوراثة جعل الصورة أكثر وضوحاً أمام العائلات التي يعاني أفرادها منه. والأمل موجود في المستقبل، حيث لم يعد مستبعداً ــ في ضوء ما نراه من تقدم علمي كبير ــ أن يجد العلم حلاً لهذا المرض يساعد على إيقاف معاناة المصابين به وعائلاتهم.


 


 

Close Menu