خمس دقائق من الرعب …. قصة الاختلاجات الحرارية!!!

 


 


خمس دقائق من الرعب …. قصة الاختلاجات الحرارية!!!


 


بكل اختصار، كانت تلك التجربة أكثر التجارب رعباً في حياتي. ظننت أنني فقدت طفلي فعلاً، ولم أعرف ماذا يجب أن أفعل. لم أكن أدري كم ستطول التجربة، وهل سيعود طفلي إليّ من جديد. هل سأستطيع أن أعانقه وأقبّله كما كنت أفعل كل يوم. كل هذا الأفكار مرّت أمامي كفيلم رعب مدّته خمس دقائق حسبتها خمس سنوات. الأمر كان بسيطاً، طفلي الذي يبلغ من العمر عاماً واحداً كان باسماً ضاحكاً مغرّداً كالعصفور طوال اليوم. في المساء أحسست أنّه متعب، ثم بدأ لديه سيلان في الأنف وأحسست أن حرارته بدأت بالارتفاع. لم أعر الأمر أهمية كبيرة فهذا حصل عدة مرات قبل الآن. كنت تقول لي يا دكتور إن الكثير من الأطفال يصابون بالفيروسات وما أكثرها صيفاً شتاءً. أعطيته دواءً أحتفظ به في المنزل لخفض  الحرارة. ولكنني لاحظت أن حرارته لم تنخفض كما كنت أتوقعها. بعد قليل ذهبت إلى المطبخ لأحضّر له زجاجة من حليب الأطفال، وعدت إلى الغرفة لأشاهد المشهد الرّهيب. طفلي الجميل السعيد الباسم دائماً غابت عن وجهه علائم الحياة. كان لون وجهه يتنقل  بين الشحوب والزرقة والاحتقان، وكانت عيناه تدوران إلى الخلف بشكل لم أشهده في حياتي، أمّا وجهه فقد ضاعت ملامحه في خضم الاختلاجات التي كان يعانيها. كانت ساقاه وساعداه تتحركان حركات تشنجية غريبة وكان واضحاً أنها حركات غير  إرادية. وكانت تصدر منه صيحات مرعبة كتلك التي أشاهدها في الأفلام عندما يصوّرون شخصاً مصاباً بالصرع. لم أكن أدري ما أفعل. اتصلت بدورية الإسعاف. وحاولت أن أقوم بحركات تمسيدية ظننت أنها ستخفف من التشنجات لدى طفلي، وراحت دموع تنسكب من عينيّ وسط بكاء هستيري. مسكين زوجي أصبح لديه مريضان يحتاجان للعناية الفورية ولم يعرف ماذا كان عليه أن يفعل.


 


مع وصول دورية  الإسعاف إلى منزلنا كانت الاختلاجات قد توقفت. وعادت نظرات الحياة إلى عيني طفلي، ورحت أقبله قبلات من تستقبل ابنها العائد من سفر بعيد. قامت دورية الإسعاف بأخذنا جميعاً إلى  المستشفى. وبعد أن قام الطبيب بفحوص متعددة قال لنا: طفلكما مصاب بما يدعى (الاختلاجات الحرارية)….. لا تخافا!! كل ما عليكما أن تفعلاه هو أن تعطياه دواءين خافضين للحرارة بحيث لا تعود الحرارة للارتفاع، وأن تقوما بمراجعة طبيب الأطفال غداً. وها نحن هنا !!!


 


 


ما هي الاختلاجات الحرارية؟


 


هي عبارة عن حركات اختلاجية تسببها الحمى في الرضّع والأطفال الصغار. وما يحصل هو أن الطفل يفقد وعيه ويقوم بحركات اهتزازية للأطراف. وربما حصل تصلّب للجسم أثناء الاختلاجات في بعض الأحيان، كما أن الحركات قد تقتصر  على بعض الأطراف لا كلّها، إلاّ أن الاختلاجات المعممة هي  أكثر شيوعاً. وتستمر معظم  الاختلاجات الحرارية دقيقة إلى دقيقتين، ولكن قد تتراوح الفترة من ثوانٍ إلى 15 دقيقة. وفي معظم الحالات فإن الطفل المصاب بالاختلاجات الحرارية تكون حرارته الشرجية أعلى من 102 درجة فهرنهايت.


 


هل هي صرع؟


إن الاختلاجات الحرارية ليست صرعاً. فالصرع هو عبارة عن اختلاجات معاودة غير مترافقة بالحرارة. وهنا لا بد من التفريق الواضح بين الاختلاج والصرع. فالاختلاج هو (عرض) وليس مرضاً. فالشخص المصاب بنقص السكر في دمه مثلاً قد يعاني من  الاختلاج ولكن لا يمكن أن نقول عنه إنه مصاب بالصرع. فالصرع هو عبارة عن (مرض) تحصل فيه الاختلاجات المعاودة. وهذا المفهوم يجب أن يكون واضحاً عندما نخوض في هذا الموضوع.


 


مشكلة شائعة


 


إن واحداً من كل 25 طفلاً ستحصل لديه هجمة واحدة على الأقل من الاختلاجات الحرارية. وهذه نسبة تعتبر عالية. وهنا ينشأ سؤال هام. ماهو احتمال أن تتكرر الاختلاجات الحرارية بعد أن تحصل للمرة الأولى؟ والجواب هو أن ثلث الأطفال الذين يعانون من هذا  النوع من الاختلاجات ستتكرر لديهم مرة ثانية. وهذه المشكلة تحصل في الأطفال بين عمر 6 أشهر وعمر 5 سنوات وهي أكثر ما تكون شيوعاً في الطفل الدارج (بين عمر 1 ــ 3 سنوات).


 


لماذا تحصل؟


 


هنالك عدة عوامل تجعل الطفل عرضة للاختلاجات الحرارية. منها العمر الصغير كما أسلفنا، الحمى المتكررة، ووجود أعضاء قريبين في العائلة (أم، أب ، أخ ، أخت) مصابين بالمشكلة نفسها. وفي حال حصول الاختلاجات بحرارات قليلة أو حصولها مباشرة بعد بدء الحرارة، فإن احتمال تكررها يصبح أعلى. وإن حصول اختلاج حراري مطوّل في المرة الأولى لا يزيد من احتمال تكرر الاختلاجات.  


 


هل هي مؤذية؟


 


ربما كان هذا السؤال هو أكثر ما يشغل بال الأهل سواء خلال حصول الاختلاج أو بعد انتهائه. فالكثير من الأهل لديهم اعتقاد بأن الاختلاجات الحرارية تؤذي الدماغ أو تؤدي  إلى الجنون أو إلى أشياء كثيرة يصعب حصرها في مقال مختصر. وفي حقيقة الأمر فإن الغالبية العظمى من الاختلاجات الحرارية لا تؤذي الطفل مطلقاً. والخطر الموجود حقيقة هو أن يتعرض الطفل أثناء الاختلاج إلى السقوط (كأن يحصل الاختلاج في منطقة قريبة من درج أو مكان مرتفع) أو أن يتعرّض الطفل للاختناق بسبب استنشاق اللعاب وغيره. أما ما عدا ذلك، فنطمئن الأهل إلى أن الأبحاث العلمية أثبتت أن الاختلاجات الحرارية لا تؤذي دماغ الطفل، ولا تؤثر على أدائه المدرسي في المستقبل ولا على مستواه العقلي ولا ذكائه. وحتى في الاختلاجات المطوّلة جداً (60 دقيقة) فإن معظم الأطفال يتعافون تماماً.


 


والصرع؟


والسؤال الذي يطرحه الأهل على الطبيب ويطرحه الطبيب على نفسه هو فيما إذا كان الطفل المصاب بالاختلاجات الحرارية سيحصل لديه صرع. والحقيقة هي أن 95ــ 98% من الأطفال الذي يتعرّضون للاختلاجات الحرارية لا يحصل لديهم أي شكل من أشكال الصرع. وأما النسبة المتبقية من الأطفال فهم أولئك الذين تكون لديهم عوامل خاصة تزيد من احتمال وجود  الصرع. وهي حصول اختلاجات حرارية طويلة الفترة، أو حصولها في جزء محدد من الجسم كساعد واحد أو ساق واحدة أو تلك التي تحصل مرة أخرى خلال 24 ساعة، أو وجود مشاكل عصبية ظاهرة أخرى لدى الطفل. ونذكر هنا أنه من بين الأطفال الذين لا توجد لديهم عوامل الخطر هذه فإن احتمال حصول الصرع بعد نوبة الاختلاج الحراري هي 1%.


 


ماذا نفعل أثناء الاختلاج؟


الهدوء هو المفتاح في حال حصول نوبة الاختلاج الحراري. وأنا أعلم تماماً أن لفظ هذه الكلمة أسهل بكثير من القيام بها فعلاً، ولكنها هي الأمر المطلوب في جميع الأحوال. ولا بد من وضع الطفل على الأرض وبعيداً عن الأماكن المرتفعة كالدرج وغيره والتي يحتمل أن يسقط منها. ولا يجب أن نمسك الطفل أو نربطه خلال النوبة. ويفضّل أن يوضع  الطفل على جنبه (أو على بطنه) مع إزالة أي شيء موجود في فمه (كالمصاصة والزجاجة واللهاية وغير ذلك) بالإضافة إلى تجنب وضع أي شيء في فم الطفل (نعم بما في ذلك الدواء).وإذا استمرّ الاختلاج (الأوّل) أكثر من عشر دقائق فيمكن الاتصال بالإسعاف أما الاختلاجات التالية فلاضرورة عندها للاتصال بالإسعاف وغيره. ولكن من الضروري بعد انتهاء النوبة البحث (من قبل الطبيب) عن سبب ارتفاع الحرارة ليقوم الطبيب بعلاجها. ويصبح البحث عن السبب بالغ الأهمية في حال أظهر الطفل صلابة في العنق أو إقياء شديداً أو نقصاً في مستوى الوعي بعد زوال النوبة لأن هذا قد يكون دليلاً على التهاب السحايا. ولمنع  الاختلاج من الحصول فلا بد من المحافظة على حرارة الطفل ضمن الحدود الطبيعية وذلك باستخدام دواءين مختلفين لخفض الحرارة. والاتصال بالطبيب عند ظهور أي ارتفاع في الحرارة.


 


 


وطمأنينة الأهل؟


 


لعل  الأمر الأهم في موضوع الاختلاج الحراري هو موضوع السلامة والطمأنينة. وما أفعله عادة في عيادتي هو  أنني أشرح الأمر للأهل بعد  النوبة الأولى ، وفي حال حصول نوبة ثانية فإنني أقوم بتحويل الطفل إلى طبيب الأمراض العصبية للقيام بتخطيط دماغي لنفي وجود الصرع (أي الاختلاجات المعاودة غير الحرارية). والأمر الآخر هو أنه حتى في حال بيّنت الدراسات في النهاية وجود الصرع أو ما أحب أن أسميه (اضطراب الاختلاجات العصبية) فإن العلاجات موجودة وتؤدي إلى الشفاء بإذن الله.


 

Close Menu