منى والكالسيوم والأخطاء المطبعية!


 


 


منى والكالسيوم والأخطاء المطبعية!


 


 


سمعت مرة طبيباً لأديبٍ عربي كبير راحل يتحدث عن الشكاوى والأسئلة التي كان يمطره بها مريضه الشهير الذي عرف بالوسواس. كان الأديب مهتماً بشكل خاص بموضوع (المصران) أي الأمعاء! ففي كل مرة كان الأديب العبقري يزور طبيبه كان يطلب منه أن يقوم بالتركيز في فحصه الطبي على (المصران) لأنه كان يعتقد أن ذلك أمر جوهري في  صحته التي كان يحافظ عليها إلى درجة الهوس. ولا يختلف الأمر فيما إذا كان الأديب مصاباً بأعراض إنفلونزا أو صداع أو ألم في الساق، فالسؤال الأوّل والاهتمام الرئيس كان منصباً على (مصرانه) العتيد.


 


 وعندما سئل الطبيب عن تفسيره للاهتمام الذي كان يبديه مريضه الراحل بالمصران تحديداً وليس بالأذن أو العين أو غيرهما، أجاب قائلاً إن السر كان يكمن ربما في أنه قد رأى أو سمع أثناء طفولته أو شبابه بإصابة أحد أقاربه بمرض متعلّق بالأمعاء مما جعله يعزو أي عرض يصاب به إلى هذا العضو من أعضاء الجسم.


 


الأخطاء المطبعية


 


عندما كنا ندرس في كلية الطب، كنا نقرأ بين الحين والآخر أسماءً غريبة لبعض الأمراض النادرة التي لا يمكن أن تخطر في بال. فهناك داء يسمّى (حمى بطاح الأرز)، وآخر يدعى (حمى الخنادق)، وثالث يعرف بالــ (أبيتاليبوبروتينيميا) !! كما أن هنالك مرضاً يسمى (التيفوس) ينجم عن عامل ممرض يسمى (ركتسيا تسوتسوغاموشي)!! طبعاً هذا على سبيل المثال لا الحصر.


 


بالنسبة لي فقد كنت أعتقد ــ بصراحة ــ أن (حمى بطاح الأرز) هو اسم لرواية صينية، وأن (حمى الخنادق) هو عنوان لفيلم حربي، وأن (تسوتسوغاموشي) هو فيلم من إنتاج مشترك هندي ياباني، أما (أبيتاليبوبروتينيميا) هذه، فبعد أن أعاني من قراءتها ــ على مراحل ــ ما أعاني، فلم يكن لدي أدنى شك أنها خطأ مطبعي!


 


المفاجأة


 


بعد أن انتهينا من الدراسة وتوجه كل منا إلى الممارسة في العيادات والمشافي المختلفة،  كنا نتبادل قصصاً غريبة عن أهل ومرضى يأتون إلى عياداتنا ويسألون أسئلة واضحة ومحددة عن هذه الأمراض التي كنا نظنها غريبة ولكن بعض المرضى يعرفون كيف يلفظون اسمها إضافة إلى معرفتهم بكامل تفاصيلها وأعراضها وعلاماتها المخبرية. وأنا تأتي إليّ في عيادتي أحياناً أم تسألني فيما إذا كانت الحكة التي تعاني منها ابنتها ناجمة عن ركتسيا (تسوتسوغاموشي)، وأخرى تطلب مني أن أجري لابنتها اختباراً لنفي (حمى بطاح الأرز) وثالثة تخاف أن يكون ابنها مصاباً بالأبيتاليبوبروتينيميا!


 


كنت أستغرب كثيراً عندما أتلقى أسئلة من هذا النوع، وعندما كنت أستقصي  الأمر كنت أعرف في النهاية أن أحد أقرباء الأهل قد أصيب ببعض هذه الأمراض مما جعلهم يربطونها في أذهانهم بأي عرض يصابون به هم أو أطفالهم. شأنهم في ذلك شأن أديبنا العتيد.


 


 


 


منى


 


هذه الذكريات والخواطر أعادتها إلى ذهني  سيدة محترمة وأم مثالية أحضرت ابنتها (منى) إلى عيادتي. كانت(منى) قد عانت من تشنج قصبي معاود حصل مرتين أو ثلاث مرات خلال شهر واحد. وبعد المعالجة الملائمة استجابت(منى) للمعالجة وتماثلث للشفاء.


 


 وأثناء إحدى المراجعات لعيادتي قالت لي السيدة الكريمة: دكتور… أنا أريد منك أن تجري اختباراً لمنى للتأكد من عدم إصابتها بنقص الكلس!! فأنا أخشى أن تكون الأعراض التي عانت منها في الفترة الأخيرة ناجمة عن ذلك.


 


 قلت: الكلس؟ تقصدين الكالسيوم؟


 


 قالت: نعم!


 


 ــ  لماذا تريدينني أن أجري اختباراً للكالسيوم؟ هل هنالك أحد من إخوتها أو أخواتها مصاب بنقص الكالسيوم؟


 


 *  لا.


 


 ــ  هل هنالك أحد من إخوتك  أو أخواتكِ أنت مصاب بنقص الكالسيوم؟


 


 *  لا أعتقد!


 


ــ   وهل هنالك أحد من أجدادك أو جداتك مصاب بنقص الكالسيوم؟


 


* لا أظن!


 


 ــ  ما هي قصة الكالسيوم إذاً ومن أين خطرت لكِ؟


 


  * بصراحة، عندما كنت صغيرة سمعت بقريبٍ لي  أصيب بنقص الكالسيوم وعانى منه ما عانى وأنا أخشى أن تكون ابنتي مصابة بهذا المرض لذلك فأنا أطلب منك أن تجري لها هذا الاختبار.


 


 


 


الكالسيوم


 


 ــ هل تعرفين ما هي الأمراض التي يمكن أن تكون لها علاقة بالكالسيوم؟


 


 *  لا.


 


ــ   أحب أن أقول لك أوّلاً إن تقبض القصبات الذي عانت منه (منى) ليست له علاقة من قريب أو بعيد بالكالسيوم. و لعل أكثر الأمراض المرتبطة بموضوع الكالسيوم شهرةً هو مرض (الرخيطس)!


 


*  أليس له اسم عربي؟


 


 ــ  (الرخيطس) كلمة أعجمية معرّبة كان يستخدمها الأطباء العرب القدماء، وهنالك اسم معرّب هو (الخرع).


 


 *  وما هو (الخرع)؟


 


 ــ  هو حالة مرضية ينقص فيها الكالسيوم (الكلس) في العظام، فيصاب الطفل عندئذٍ بتقوّس في ساقيه وضخامة في رسغيه وتكون الصور الشعاعية لعظامه غير طبيعية.


 


*  وما أسبابه؟


 


 ــ  أهم أسبابه نقص الفيتامين (د) في الجسم وهذا قد يكون ناجماً عن نقصه في الغذاء، أو نقص التعرّض للشمس أو سوء امتصاص يؤدي إلى عدم تواجده في الجسم بشكل كافٍ على الرغم من كون كمياته الغذائية طبيعية. إن الفيتامين(د) ضروري لاستقلاب الكالسيوم في الجسم وبالتالي، فإن نقصه قد يؤدي إلى عدم احتواء العظام على هذا المعدن الهام. ويعاني الطفل كما قلت لك من مشكلة في العظام ونقص في النمو وفي أغلب الحالات فإن مستوى الكالسيوم في الدم في هذا المرض هو طبيعي وإنما يكون النقص في العظام.


 


 *  وكيف يتم حل هذه المشكلة؟


 


ــ   بإعطاء الفيتامين (د) سواءً بالفم أو حقناً بالعضل.


 


  * وما هي أهم المواد الغذائية الحاوية على الكالسيوم؟


 


  ــ  لعل من أهمها الحليب.


 


 *  مشكلة.


 


ــ  لماذا؟


 


 *  منى لا تشرب كميات كافية من الحليب.


 


 ــ  ليست هذه مشكلة أبداً. فهنالك مواد غذائية أخرى تحوي كميات كافية من الكالسيوم مثل الجبن، وأهم من ذلك فإن بعض أنواع عصير البرتقال المتوفرة في الأسواق يضاف لها الكالسيوم وبالتالي فإن محتواها من هذا المادة يعادل تماماً محتوى الحليب. 


 


 


مشاكل أخرى


 


 * وما هي المشاكل الأخرى المرتبطة بنقص الكالسيوم؟


 


 ــ  هنالك مشكلة أخرى أقل شهرة وهي ما يدعى (نقص نشاط جارات الدرق). إن جارات الدرق هي عبارة عن أربع غدد موجودة في العنق بقرب الغدة الدرقية، وهي تفرز هرموناً يسمى (هرمون جارات الدرق) وهذا الهرمون يساعد على المحافظة على مستويات طبيعية من الكالسيوم في الدم. وفي حال نقصه فإن تكلّس العظام يزداد ولكن مستوى الكالسيوم في الدم ينخفض مما يؤدي إلى حركات اهتزازية في الجسم تسمى (التكزز). والعلاج في حال حصولها هو إعطاء بعض مركبات الكالسيوم حقناً وريدياً ثم المحافظة على مستويات الكالسيوم في  الدم من خلال الفيتامين (د).


 


*  إذاً هنالك علاقة واضحة بين الفيتامين (د) والكالسيوم.


 


  ــ صحيح، الفيتامين (د) هو من أهم العوامل المنظمة للكالسيوم في الجسم، كذلك فإن أشعة الشمس تلعب دوراً هاماً في استقرار هذا المعدن، وللفوسفور أيضاً دورٌ مهم في ذلك.


 


* وهل الكالسيوم يعتبر معدناً؟


 


  ــ طبعاً وهو يأتي في المرتبة الثانية بين المعادن من حيث أهميته في صحة الجسم بعد معدن (الحديد).


 


 *  بصراحة، بعد أن حدثتني عن الكالسيوم وأهميته والأمراض التي قد تنجم عن نقصه فأنا أكثر رغبة في إجراء اختبار دموي لمستوى الكالسيوم لدى منى.


 


ــ  سأجري لها هذا الاختبار ، ليس لأنني أعتقد أنه ضروري، وليس لأنني أظن أن لديها أعراضاً توحي بنقصه، ولكن حتى ترتاحي أنتِ من هذا الخوف.


 


 *  أشكرك!


 


                                                                                                       البقية تأتي


 


بعد أيام عادت نتيجة اختبار الكالسيوم من المختبر، وكان المستوى عند (منى) طبيعياً (بطبيعة الحال). وأحببت أن أطمئن الأم، فاتصلت بها هاتفياً.


 


 قالت لي: دكتور أرجو أن تطمئنني. كيف كانت نتيجة الكالسيوم لدى منى؟


 


 قلت: ممتازة وطبيعية! فهل ارتحتِ الآن؟


 


 *  نعم.


 


ــ  وهل ذهب عنكِ وسواس الكالسيوم؟


 


 *  بالتأكيد. ولكن … دكتور قبل أن تضع السماعة، أختي تريد أن تكلّمك.


 


 ــ  هل لديها سؤال؟


 


 * نعم. ابنتها تصاب بالزكام  بين الفترة والأخرى وهي تريد أن تسألك فيما إذا كان السبب في ذلك هو نقص المغنزيوم!!!


 


 


 

Close Menu