نداء عاجل إلى جميع أمّهات العالم!!

 


 


 


نداء عاجل إلى جميع أمّهات العالم!!


 


 


 


أحاول من أعماق قلبي أن أبتعد عن الانفعال أثناء كتابة هذا المقال!


 


 قدر الإمكان، أحاول ألاّ أجعله أمراً شخصيّاً. وقد يصعب على  القارئ أن يصدّق الأمر، ولكن بالفعل فهذا المقال خالٍ من المبالغات خلوّ الحليب المقشود من الدسم!!


 


كانت جدّتي عندما تكون جادّة حازمة حاسمة في تقرير أمر تقول لمحدّثها أو محدثتها عندما تريد التوكيد مع تجنب الأيمان المغلّظة : مالك عليّ يمين!! وأنا أقول للقارئ الكريم: مالك عليّ يمين ….  فإن أكثر قضيّة تشغل جميع أمّهات العالم هي شهيّة أطفالهن، ودون أي استثناء تقريباً فالأمر يترجم عملياً بالاعتقاد الخاطئ بأن أطفالهن يأكلون أقل مما يجب، هذا إن كانوا يأكلون أي شيء على الإطلاق!!


 


وإذا كنا سنأخذ على محمل الجد جميع ما تقوله الأمّهات، فإن الأطفال العرب يعيشون على الاستقلاب الضوئي ومطر السماء! لأنهم لا يأكلون شيئاً ولايشربون شيئاً على الإطلاق (ضع أربعة خطوط تحت كلمة على الإطلاق فهي مهمة تماماً)!


 


زلزال الصين، أمر بسيط وجانبي! إعصار كاترينا لا مكان له في الأخبار، وحتى موضوع تسونامي فلا تتعدى أهميته أهمية موضوع إنشاء بسيط لطالب في المدرسة  الابتدائية. فهذه المواضيع جميعاً لا أهمية لها ــ في نظر معظم الأمّهات ــ إذا قارنّاها مع القضية العظمى لهذا العصر وهي قضيّة (شهية الطفل) التي هي ــ  بالتعريف ــ  معدومة تماماً كما ذكرنا.


 


 


الحقيقة والخيال!!


 


عندما يقولون لك إن الحقيقة أغرب من الخيال صدقهم…. على مسؤوليّتي!! فهنالك قصص تحدث معي  كل يوم وأفكر مليّاً قبل روايتها خشية من أن أتـّهَم بالمبالغة. ولكن ما دام الحديث  اليوم حديث مصارحة ومفاتحة فلا بد من ذكر بعضها!


 


 


 


الحكاية!!


 


كان الطفل قد وقع على الأرض أثناء نزوله السلّم. عمره سبع سنوات. أدخلته أمه إلى عيادتي بلهفة شديدة. قالت لي: لقد فقد وعيه لحوالي دقيقة بعد أن سقط!! ما رأيك هل يعني الإغماء أن هنالك كسراً في الجمجمة؟ لقد سمعت هذا الأمر مرة على التلفاز!! أنا خائفة جداً يا دكتور!! كانت أسئلتها تتلاحق أثناء قيامي بفحص الطفل، لم تترك لي أي جزء ثانية من الوقت للإجابة عن أي سؤال.


 


 بعد فحص الطفل قلت لها: هنالك بعض  العلامات التي تجعلنا ملزمين بالقيام بفحوص وصور واختبارات إضافية لنفي كسر الجمجمة والنزف الدماغي. قالت: هل تقول لي يا دكتور إن طفلي مصاب بكسر في الجمجمة؟ قلت: أنا لم  أقل هذا ولكن أقول إن علينا أن ننفي هذه الإصابة …  الأمر عاجل ….. سأقوم بالاتصال بسيارة  الإسعاف لتأتي وتنقله إلى مستشفى الأطفال، لا يجب أن تأخذيه بسيّارتك إلى هناك فلو كان هنالك نزف فعلاً فإن هنالك احتمالاً أن يزيد النزف أثناء الانتقال إلى المستشفى وقد تتفاقم الحالة.


 


 كانت الدقائق تتلاحق بسرعة هائلة تتماشى مع سرعة قلب الطفل الذي كان في مرحلة من الذهول القريب من الإغماء الكامل! كنت أقوم ببعض الحركات الإسعافية الأوّليّة، التي أحاول أن أجمع بينها وبين الاتصال بمركز الإسعاف ومستشفى الأطفال الذي سأنقل الطفل إليه.


 


المشهد حتى الآن يبدو وكأنه مشهد من مسلسل (غرفة  الإسعاف)  الذي يعرض على قنوات التلفزيون الأمريكية. ولكنه بعد قليل وبفضل عبارة صغيرة ورشيقة من الأم الكريمة يتحوّل إلى مشهد (سوريالي) فعلاً يجعله أقرب إلى أفلام المخرج  الإيطالي  غريب الذِكر (فلليني) منه إلى المسلسلات الواقعية الأمريكية !!


 


في خضم هذه اللحظات العصيبة التفتت الأم إلى بلهفة وقالت: دكتور أريد أن أقول لك شيئاً هاماً! قلت في نفسي عندما سمعت سؤالها لعلّها تريد أن تروي لي بعضاً من التفاصيل عن الرض الذي تعرّض له طفلها. لعلها تريد أن تقول لي إن السبب هو شجار مع شخص آخر من البالغين، لعلّ في الأمر جريمة بشعة أدّت إلى الوضع الذي نحن فيه الآن. ربما كان الأمر يستدعي الاتصال بالشرطة. سيتعقد الأمر كثيراً في تلك الحال فالوقت محدود فعلاً.


 


ولكن ذهن الأم الكريمة تفتــّق عن عبارة لم تخطر لي على بال في هذه اللحظات العصيبة… قالت لي: هنالك أمر يقلقني يا دكتور!! قلت بلهفة تتجاوز لهفتها حين دخلت عليّ العيادة: تفضلي… قولي…. أخبريني… هل هنالك مشكلة؟ قالت: نعم!!! طفلي يا دكتور!! قلت: مابه؟ قالت: طفلي لا يأكل!! صدقوني إنني لم أفهم قصدها في المرة الأولى!! قلت: لا يأكل ماذا؟ ماذا تقصدين؟ قالت: أعني أن شهيّته ضعيفة!!! قلت: هل أنتِ جادّة يا سيّدتي؟  قالت: نعم… طبعاً أنا جادة… هذا الأمر يقلقني منذ فترة ولا أدري ماذا أقول.


 


في حقيقة الأمر فقد كنت أنا الذي لا يدري ماذا أقول. لدينا الآن طفل يمكن أن نقول إنه بين الموت والحياة…. وقع على رأسه… هنالك احتمال أن يكون لديه كسر في الجمجمة… هنالك شك في أن يكون لديه نزف حول دماغه ــ وليس حول ظفر قدمه مثلاً ــ وهو شبه مغمىً عليه…. وطبيبه يحاول المستحيل للجمع بين إيصال حالته الطبية إلى  الاستقرار… والاتصال بسيارة الإسعاف … والاتصال بمستشفى الأطفال التي سينقل إليها… والأم لديها هم واحد … هو أن شهية طفلها .. ضعيفة!!! ضغطت على أعصابي بشدة كي أتجنب الجواب على سؤالها العجائبي. ألم أقل لكم إن الحقيقة هي أغرب من الخيال في كثير من الأحيان!!


 


كل يوم


 


سأحاول أن أكون علميّاً في كلامي، فنحن  اتفقنا على تجنب المبالغة في هذا المقال. ومن هذا المنطلق أقول إنني أناقش موضوع الشهية مع 70% من جميع الأمّهات اللاتي يحضرن أطفالهن إلى عيادتي.. وذلك كل يوم. أنا لم أقل 90% أو 100% خشية المبالغة وخشية أن أخرج عن وعدي بعدم المبالغة. ولكن هل تتصوّرون كيف يكون حال الطبيب في نهاية النهار عندما يكون قد تحدث مرة بعد أخرى بعد أخرى عن الشهية. لو أن الأمّهات أجمعن على أي شيء آخر غير الشهيّة لصنعن العجائب فعلاً!! ولكنهن يأبين أن يجمعن إلاّ على قضية الشهية.


 


حديث كل يوم


 


في كل مرة تقول لي فيها إحدى الأمّهات إن طفلها لا يأكل مطلقاً!! أقول لها بعد أن أنظر إلى معدلات نمو طفلها الطبيعية إن هذا الأمر مستحيل بالنظر إلى كونه ينمو، وإذا كان ينمو بشكل مناسب فلا بد من أنه يأكل جميع ما يحتاجه من طعام. وعندما أفقد  الأمل من أن تقوم بتغيير أقوالها، أشرح لها حقيقة أنني لا أقلق عندما لا يأكل الطفل كثيراً بل من الشراهة التي يعاني منها بعض الأطفال، وأروي لها القصص الواقعية عن أطفال صغار يعانون من الداء السكري المشابه لنموذج الكبار وأن السبب فيه هو زيادة الوزن والإفراط في الطعام!! وبعد هذا الحديث كلّه تطلب إليّ الأم أن أصف لطفلها دواءً يزيد الشهيّة، ثم ــ وبعد  المداولات والمناقشات والصفقات المتبادلة ــ نصل إلى حل وسط وهو أن أصف لطفلها بعض الفيتامينات على أن تتوقف ــ لمدة عام على الأقل ــ عن طلب الأدوية  التي تزيد الشهية. وهكذا تسير الحياة!!!


 


فسحة الأمل


 


لقد بدأت ممارسة طب الأطفال منذ حوالي أربعة عشرة عاماً….. ومنذ اللحظة  الأولى للممارسة فإن الحديث اليومي المفضل لجميع الأمّهات هو موضوع شهيّة أطفالهن. أنا  أتحدث في هذا الأمر كل يوم … منذ أربعة عشرة عاماً!!! وما زال الأمل موجوداً لديّ في أن تصل هذه الرسالة إلى جميع الأمّهات…. أحببت أن أوجّه هذا النداء العاجل إلى جميع أمهات العالم!!! أرجو أن تعرن انتباهكن إلى المواضيع الهامة… التربوية … الصحية … العلمية … اللقاحات …. التطوّر…. التعامل الاجتماعي للطفل ….. إلى أي من هذه المواضيع  الهامة….. وأرجو أن تتركن الطفل وشهيته دون أن تزدن عليه الضغط ودون أن تحجنه إلى أن يقضي أيام مستقبله متنقلاً من (ريجيم) إلى آخر لإنقاص الوزن نتيجة  لما تزرعن فيه اليوم من ثقافة الشراهة….. أنا أعيش منذ أربعة عشرة عاماً على أمل أن تصل رسالتي هذه… فهل هنالك من تسمع النداء؟ ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل!!!


 

Close Menu