نَفخَةُ القلب البريئة!!

 


 


 


نَفخَةُ القلب البريئة!!


 


كنا مجتمعين في سهرة نقضي وقتاً ممتعاً مع ثلة من الأصدقاء. معظم الحاضرين كانوا أطباء من اختصاصات مختلفة. السهرات يجب أن تكون بعيدة عن أجواء العمل ومتاعبه، فكل منا يقضي نهاره مع العمل بما فيه من مشاغل. ولكن ــ في الواقع ــ فحتى الاجتماعات العادية التي يقصد منها المرح والراحة يندر أن تخلو من أحاديث الطب.


 


صديق ظريف طرح سؤالاً على الجميع: ما هو أصعب موقف تواجهه في عملك اليومي؟ وراح كل من الأصدقاء الأطباء الحاضرين يطرح إجاباته. معظم الأجوبة كان مثيراً  للاهتمام ولا مجال الآن  لسردها جميعاً.


 


عندما جاء دوري في الإجابة قلتُ دون تردد: إن أصعب موقف أواجهه في عملي هو عندما أضطر لإخبار أم من الأمهات أن طفلها لديه نفخة قلبية! لاحظ أنني قلت (إخبار أم من الأمهات) ولم أقل (إخبار أب من الآباء) ….. الآباء والأمهات لديهم محبة لا توصف لأطفالهم وحرص لا حدود له على صحتهم وراحتهم. ولكن وضع الأم يظل متميّزاً …. فعاطفتها الجيّاشة تطغى على كل شيء أحياناً مما يجعل مواجهتها بأمر كهذا أمراً بالغ الصعوبة ولذلك اخترت هذا الموقف كأصعب موقف أواجهه في عملي.


 


 ما هي النفخة القلبية؟


 


النفخة القلبية أوّلاً هي تعبير عام يصف صوتاً يسمعه الطبيب بسمّاعته عند الإصغاء إلى القلب. فهي تعتبر ــ بالتعبير الطبي ــ علامة من العلامات لا عرضاً من الأعراض. فالعرض هو أمر يصفه المريض لطبيبه أو هو شكوى من قبل المريض أما العلامة فهي ما يكشفه الطبيب بفحصه السريري.


 


والنفخة ــ من جديد ــ هي كما يدل الاسم  صوت يشبه النفخ يسمعه الطبيب وهو يعبّر عن مرور الدم من خلال ما يدعى (الدِسامات) أو (الصِمامات) وهي الفتحات الموجودة بين (جوف) من أجواف القلب وجوف آخر أو بين جوف من أجواف القلب وأحد الأوعية الكبرى الصادرة عن القلب كالأبهر والشريان الرئوي. إن جريان الدم من خلال هذه الدِسامات يعطي صوتاً معيّناً ويمكن وصفه في بعض الأحيان بأنه (نفخة قلبية) ويطلق عليه في بعض الأقطار العربية اسم (اللّغَط القلبي)!


 


معظم النفخات بريئة


 


إن الحقيقة التي نحاول أن نشرحها للأهل هي أن معظم النفخات القلبية عند الأطفال إنما هي نفخات (بريئة) وبالتعبير الطبي ــ مرة أخرى ــ فإنها تسمى النفخات الوظيفية أو الفيزيولوجية.


 


فالقلب عند الأطفال يتميّز بنشاطه الزائد وهذا النشاط المتميّز للقلب يجعل جريان الدم من خلال الدسامات سريعاً ونشطاً وقد ينجم عنه صوت النفخة. والمشكلة في الأمر هو أننا عندما نذكر للأم كلمة (قلب) فإنها لا تسمع سوى هذه الكلمة ولا تستنتج غير أن طفلها لديه مشكلة في القلب. وكل شرح يذكر للأم من قبل الطبيب عن أن النفخة هي نفخة وظيفية أو فيزيولوجية أو بريئة يبدو وكأنه صوتٌ قادم من بعيد لا تميّزه الأم ولا تسمعه. ومن حق الأم علينا في هذه المناسبات أن نلتمس لها العذر فالطفل أغلى ما لديها وقلبه من أغلى ما لديه من أعضاء وأمراض القلب مرتبطة دائماً في الأذهان بمشاكل كبرى.


 


الصراحة واجبة


 


هنالك طريقة يتّبعها بعض الأطباء تتلخّص في  عدم ذكر أي شيء عن النفخة القلبية حتى إذا سمعها الطبيب وذلك تجنّباً لقلق الأم وخوفها. والحجة التي يستخدمها أتباع هذا الأسلوب هي ما يلي: طالما أن النفخة بريئة وهي لا تعبّر عن أي مرض في قلب الطفل، فما هي ضرورة إزعاج الأم بذكرها؟


 


بصراحة أنا لست من أنصار هذه الطريقة أبداً. فهنالك عدة أسباب تدعو الطبيب لمصارحة الأهل بشأن أية مشكلة تتعلّق بالطفل. أولها أن الأم والأب لديهما الحق في معرفة كل التفاصيل المتعلّقة بصحة طفلهما. وثانيهما أنه قد يحدث أحياناً أن يتم أخذ الطفل إلى قسم الإسعاف لسبب أو لآخر فيستمع إلى قلبه طبيب هناك فيلاحظ النفخة القلبية ويسأل الأم عنها فتفاجأ مفاجأة كاملة وتظن بطبيب طفلها الظنون ومن الواضح في حالة كهذه أن المعرفة المسبقة الهادئة بشأن هذه العلامة من قبل الأم ستجعل الأمر عادياً.


 


 


 


 


السبب الثالث


 


أما السبب الثالث ــ وهو الأهم ربما ــ فيتلخّص فيما يلي: صحيح أن الأغلبية الساحقة من النفخات القلبية عند الأطفال هي بريئة إلاّ أن بعضها ليس بريئاً. بمعنى أن بعضها هو عبارة عن تعبير عن مرض يكتنف القلب. ولذلك يضطر طبيب الأطفال في بعض الأحيان لتحويل الطفل إلى أخصائي بأمراض القلب ليجري الفحوص التي يتأكد بوساطتها من طبيعة النفخة القلبية ومن أهم الفحوص تخطيط القلب الكهربي والتصوير بالأمواج فوق الصوتية.


 


 وقد يؤدي الأمر أحياناً إلى تشخيص مشكلة محددة. فهنالك الفتحات غير الطبيعية بين البطينين أو بين الأذينين أو تضيّق بعض الدسامات (وأشيعها عند الأطفال ربما هو الدسام الرئوي) إلخ. ومما يدعو إلى الاطمئنان أنه في معظم الحالات التي تكون فيها النفخات تعبيراً عن مرض قلبي فإن المعالجة هي المراقبة والانتظار. فالفتحات بين البطينين تغلق لوحدها في معظم الحالات  وكذلك تُصحح الكثير من تضيّقات الدسام الرئوي تلقائياً دون أي حاجة لعلاج. وفي أسوأ الحالات ــ أي عندما يحتاج الأمر إلى معالجة جراحية ــ فإن جراحة القلب قد قطعت في السنوات الأخيرة أشواطاً هائلة جعلت من نتائجها مشجعة جداً وتدعو إلى الاطمئنان.


 


ليالٍ بلا نوم


 


في كل مرّة أذكر فيها لأم من الأمهات أن طفلها لديه نفخة قلبية أقول للأم: إنني أعلم أنه بالرغم مما شرحته لك بخصوص النفخة القلبية الموجودة عند طفلك وأنها على الأغلب بريئة فإنك ستقضين بعض الليالي دون نوم. هذا ما علمتني إياه التجارب مع أمهات أخريات. فإذا خطر لك سؤال إضافي لم نقم بتغطيته في زيارتك للعيادة اليوم فلا تترددي بالاتصال. شيءٌ آخر أحب أن أذكّرك به ــ وأرجو ألا يغيب عن بالك حتى يفحص طفلكِ طبيبُ أمراض القلب ويعطي حكمه النهائي ــ وهو هذه المرة قاعدة قضائية قانونية وليست طبية …… كل متّهم بريء حتى تثبت إدانته!!


 


 

Close Menu