تاريخ اللقاحات

  

   كيف تم ابتكار أوّل اللقاحات؟

 

 إن عليك أن تمتنع عن نشر هذه الفكرة المتوحّشة

إذا كان لديك اهتمام بسمعتك !!”

 

 رسالة من الجمعية البريطانية للعلوم إلى إدوارد جنر

مبتكر لقاح الجدري  

 

لو سألت أي طبيب أن يضع قائمة لأهم المبتكرات الطبية عبر العصور، لما تردد للحظة في أن يضع اللقاحات كأحد أهم الإنجازات في تاريخ الطب كلّه. ولكن ألا يخطر ببالك ــ عندما تحضر طفلك إلى عيادة طبيب الأطفال ليقدم له اللقاحات ــ  سؤال عن الطريقة التي ابتكرت فيها هذه اللقاحات وما هو أوّل لقاح تم ابتكاره في التاريخ ومن قام بابتكاره؟

 

في الصين بدأت الحكاية

 

قبل أن يكون لدى الناس أي علم بأسباب الأمراض الأنتانية (الجراثيم والفيروسات وغيرها) قام الصينيون بابتكار أوّل اللقاحات في التاريخ. فقد لاحظ الناس (وأطباء ذلك الزمان) أن الإصابة ببعض الأمراض تؤدي إلى مناعة بحيث أن الإنسان لا يصاب بها مرة أخرى. ومن هذه النقطة انطلق بعض الأطباء الصينيين في محاولاتهم لتمنيع الناس ضد داء (الجدري) الفتاك. ففي تلك العصور كان مرض الجدري يزهق الكثير من الأرواح وفي مناطق متعددة من العالم. ومن المعروف أن هذا المرض يتميّز بحصول اندفاعات بشكل (الحويصلات) تحوي على سائل. وما فعله الصينيون هو أنهم أخذوا بعضاً من هذا السائل وقاموا بحقن  جلد الأصحاء به بهدف منع إصابتهم بالمرض. وكانت النتائج التي حصلوا عليها إيجابية، فقد تحقق لهم هذا الهدف في الكثير من الحالات. فكان ذلك أوّل لقاح في التاريخ.

 

الجدري

 

ينجم مرض الجدري smallpox عن فيروس يسمى ( variola) وينتمي إلى عائلة  Poxviridaeمن الفيروسات.وهو من الأمراض التاريخية المعرقة في القدم حيث يعتقد أنه ظهر منذ عام 10000 قبل  الميلاد في المجتمعات الزراعية في أفريقيا. وعلاماته لا تزال ظاهرة على وجوه المومياوات المصرية. ولا يخلو التاريخ العربي من الإشارة له في أماكن متفرّقة، حيث يذكر ابن عبد ربه في (العقد الفريد) أن الخليفة العباسي الأمين بن هارون الرشيد كانت على وجهه آثار الجدري.

 

 

 ويسبب الفيروس نوعين من الأمراض شديد ( variola major) ينجم عن شكل من الفيروس شديد الفوعة  وخفيف ( variola minor ) يسببه شكل آخر من الفيروس خفيف الفوعة .

 

ويتميّز الشديد بارتفاع الحرارة واندفاعات مشوّهة تبدأ على الوجه والعينين ثم تتعمم في كامل الجسم ويسبب أيضاً الآلام العضلية وكثيراً ما يؤدّي إلى العمى أو الموت. وكانت نسبة الوفيات تتراوح بين 20 ــ 60%. وقد تصل إلى 80ــ 100% في الأطفال تحت عمر 5 سنوات. وكان من المعروف منذ زمن طويل أن الإصابة بالشكل الخفيف تمنع حصول الشكل الشديد. وكانت بعض الشعوب تقوم بتعريض الأطفال الأصحاء إلى أطفال مصابين بالشكل الخفيف بهدف إعطائهم هذه المناعة وكانت هذه الطريقة تعرف بالتجديرvariolation .

 

 

 

من تركيا إلى بريطانيا

 

في أوائل القرن الثامن عشر لاحظت السيدة (ماري وورتلي مونتاغ)Lady Mary Wortley Montague (1689-1762) زوجة السفير البريطاني في تركيا أن الكثير من الأتراك يستخدمون هذه الطريقة التي ابتكرها الصينيون، وأحضرت الفكرة معها إلى بريطانيا. وقد لاحظت السيدة مونتاغ أن هذه الطريقة لم تكن تخلو من التأثيرات الجانبية، فعلى الرغم من أن الكثير من الذين تم تطبيقها عليهم حصلوا على مناعة ضد الجدري، إلا أن بعضهم كان يعاني من حصول المرض لديه وفي بعض الحالات كانت إصاباتهم شديدة وقد تصل إلى الوفاة. ومع ذلك فقد كانت السيدة مقتنعة أن فوائد هذه الطريقة المبكرة في التلقيح تفوق تأثيراتها الجانبية. وكانت تجربتها الشخصية تدفعها بهذا الاتجاه، حيث أن وجهها كان مصاباً بالتشوّهات بسبب إصابة سابقة بالجدري. فكان أن طلبت من طبيبها أن يلقح ابنها عام 1718 ثم ابنتها عام 1721 باستخدام هذه الطريقة.

 

بعد أن تم إحضار هذه الطريقة إلى بريطانيا، بدأ الأطباء هناك يستخدمونها فانتشرت انتشاراً واسعاً. حيث تمت تجربتها على السجناء في البداية ثم تم تعميمها في بريطانيا ثم في كل أوربة والعالم الجديد. ولم يكن الأمر خالياً من المخاطر حيث أن بعض العيّنات التي تم التلقيح بها كانت تحوي فيروسات ذات قدرة إمراضية (فوعة) شديدة مما أدّى إلى إصابات قاتلة، إضافة إلى أن بعض العيّنات الملوّثة بعناصر ممرضة أخرى أدّت إلى الإصابة بالسل والسفلس وغيرها من الأمراض.

 

 وكان أحد الذين تلقوا اللقاح طفلاً صغيراً يدعى (إدوارد جنر) Edward Jenner (1749-1823)  وكان الطفل محظوظاً حيث أنه كان من الذين حصلوا على المناعة دون أن يصابوا بالتأثيرات الجانبية. وقدّر لــ (جنر) أن يصبح فيما بعد طبيباً في الريف البريطاني.

 

ملاحظات طبيب شاب

 

عندما كان (جنر) يمارس الطب في الريف الإنكليزي لفتت نظره أمور هامة. فهنالك مرض يدعى (جدري البقر) يؤدي إلى أعراض مشابهة للجدري ولكنه ينتهي عادةً بالشفاء دون عقابيل خطرة. وسمع إحدى الفتيات اللاتي كن يحلبن الأبقار تقول إنها لا يمكن أن تصاب بالجدري لأنها قد أصيبت بــ (جدري البقر) وشفيت منه، وأن ذلك يحميها من الجدري.

 

 

 

 

 

المغامرة

 

وبناءً على ملاحظاته السابقة، أجرى (جنر) عام 1796 تجربة فيها مقدار كبير من الجرأة حيث قام ــ عن عمد ــ بتعريض طفل لداء (جدري البقر) بهدف حمايته من مرض الجدري. وبعد أن شفي الطفل من مرضه قام بحقن الطفل بكميات من القيح المأخوذة من مريض مصاب بالجدري فلاحظ أن الطفل كان ممنّعاً ضد المرض حيث لم يصب بالحرارة ولا بالاندفاعات المشوّهة . هذه التجربة بطبيعة الحال تعتبر غير أخلاقية بالمعاير المستخدمة اليوم في عالم الطب، إلاً أن أحداً لم ينتقد الطبيب الشاب في ذلك العصر باعتبار أن الهدف كان (سامياً)! وفي الحقيقة فإن النتائج كانت مطابقة لما توقعه الطبيب، فالطفل لم يصب بالجدري أبداً. الطفل كان اسمه جيمس فيبز James Phipps  و كان اسم المزارعة التي أخذ منها فيروسات جدري البقر  سارا نلمز Sarah Nelmes.

 

 وحاول (جنر) أن ينشر دراسته هذه في مجلة الكلية الملكية للعلومRoyal Society في لندن إلاّ أن دراسته رفضت بحجّة أنها تتنافى مع المعلومات الثابتة! (in variance of established knowledge) ولكن الباحث لم يستسلم، حيث راح يعيد هذه التجربة خلال الأشهر القليلة التي تلت ذلك فكان أن جمع 23 حالة مماثلة ونشرها في كتاب خاص.

 

 

 

اللقاح الأوّل

 

انتشر كتاب (جنر) على نطاق واسع في ذلك الحين. ونتيجة لعدم توفر الخبرة لدى الأطباء فقد راح الناس يقومون بتطبيق التجربة (غير الأخلاقية) على أنفسهم وحصلوا على نتائج ممتازة. فقد لوحظ أن الحماية التي يحصلون عليها ضد (الجدري) ــ الذي كان (بعبع) الأمراض الإنتانية في ذلك الحين ــ هي حماية حقيقية.  وقام (جنر) بإعطاء هذه المادة الممنّعة التي حصل عليها  اسم Vaccination وقد اشتقت تلك الكلمة من كلمة Vacca وهي تعني البقرة باللغة اللاتينية. وبطبيعة الحال فإن هذا التعبير لا يزال مستخدماً حتى اليوم.

 

من الطب إلى التاريخ

 

كان النجاح الذي حصل عليه لقاح (جنر) بمثابة الضوء الأخضر للاتساع في الأبحاث المتعلّقة باللقاحات. وانتشر اللقاح في جميع أنحاء العالم التي كانت تعاني من الجدري وبنتائج ممتازة. وبحلول عام 1800 كان حوالي مئة ألف إنسان قد تلقوا اللقاح المأخوذ من الجدري البقري.  ولم يلبث العلماء أن قاموا باستخدام فكرة (جنر) للقضاء على أمراض أخرى في العالم. وفي نهاية القرن التاسع عشر استفاد علم اللقاحات من تجارب باستور Pasteurفي إضعاف attenuation  الفيروسات للحصول على لقاحات أكثر إتقاناً.

 

 

 ولعل المثال الأبرز على نجاح اللقاحات هو أن الجدري قد تم القضاء عليه بشكل نهائي ولو بعد حين من ابتكار الطبيب الشاب للقاحه. ففي عام 1977 أصبح الجدري عملياً جزءاً من التاريخ وليس من العلم الطبي حيث تم تسجيل آخر حالة منه في مستشفى (مركا) في الصومال. واليوم لا يوجد الفيروس المسبب لهذا المرض إلاً في مخابر مركزين في العالم أحدهما (مركز التحكم بالأمراض الإنتانية) في مدينة (أطلنطا) بولاية جورجيا الأمريكية والآخر في (معهد المستحضرات الفيروسية) في موسكو.

 

  جوناس سالك ــ مغامرة أكثر شجاعة

 

ونقفز قفزة كبرى في التاريخ من القرن الثامن عشر إلى منتصف القرن العشرين. ففي عام 1952 أعلن الدكتور Salk  عن ابتكار عظيم آخر هو (لقاح شلل الأطفال). كان سالك ابناً لرجل روسي هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وكان يعشق دراسة القانون، إلاً أنه قام بتغيير رأيه (في اللحظة الأخيرة) وقرر الالتحاق بكلية الطب بجامعة نيويورك ليقوم فيما بعد بالتركيز على البيولوجيا والكيمياء. ثم قام بتطوير لقاح للإنفلونزا بالتعاون مع الدكتور (توماس فرانسيس). وفي عام 1947 أصبح رئيساً لمخبر الأبحاث الفيروسية في جامعة (بيتسبرغ). ثم بدأ يركز اهتمامه على فيروس (شلل الأطفال) والذي كان أحد أهم الأمراض الفتاكة في العالم. وعندما توصل إلى ابتكار الأشكال المبكرة من لقاحه قام باستخدامه على المتطوّعين. إلا أن المتطوّعين في هذه المرة لم يكونواً أطفالاً بسطاء من الريف كما كان الأمر في تجربة (جنر). بل إن الأسماء تضمنت الدكتور (سالك) نفسه وزوجته وأطفالهما الثلاثة!! ونجح اللقاح نجاحاً كبيراً. وكانت أهميته تكمن في أن عدد حالات شلل الأطفال كانت قد ازدادت كثيراً بحيث وصلت إلى 57000 حالة في عام 1952 مما جعل الخوف منه كبيراً فاعتبر اللقاح من أهم الإنجازات العلمية في القرن العشرين. وأصبح (سالك) واحداً من أهم النجوم في عالم الطب خصوصاً في عصر كان الإعلام قد بدأ يلعب فيه دوراً كبيراً، وأثارت هذه الشهرة الواسعة حفيظة الكثير من زملائه في العالم كلّه. وبعد فترة حل لقاح آخر يعطى بالفم ويدعى لقاح Sabin محل لقاح (سالك) بحيث أصبح اللقاح المفضل لمنع شلل الأطفال. إلاّ أن سالك عاش ليشاهد لقاحه يعود إلى المسرح الطبي من جديد قبل أن يرحل عن هذا العالم في عام 1995 بعد إصابته بقصور القلب الاحتقاني حيث أمضى أيامه الأخيرة في محاولات متكررة لابتكار لقاح لمرض الإيدز. وفي الواقع فإن لقاح سالك هو المستخدم اليوم في أمريكا (وهو يعطى حقناً) بدلاً من لقاح سابين (الذي يعطى عن طريق الفم). 

 

اللقاحات

 

لم يتوقف الأمر بطبيعة الحال عند لقاحي الجدري وشلل الأطفال. فاليوم تتوفر لقاحات لأمراض عديدة جداً منها التهاب السحايا (وله ثلاثة لقاحات مختلفة) والسعال الديكي والدفتريا والكزاز والحصبة والحصبة الألمانية والنكاف والإنفلونزا والتهاب الكبد المصلي والإنتاني وغير ذلك كثير.

 

وإذا كنا قد اقتصرنا على ذكر قصتين فقط من قصص ابتكار اللقاحات فذلك عائد إلى سببين، أوّلهما أن المقام لا يتسع لجميع القصص، وثانيهما أن هذين اللقاحين كانا بالفعل من المنعطفات التاريخية في تاريخ اللقاحات وهما ارتبطا ارتباطاً وثيقاً باسمي المخترعين بحيث لم يعد ممكنا فصل الاختراع عن المخترع. أما اللقاحات الأخرى ــ على أهميتها الكبيرة ــ فقد جاءت بعد جهد جماعي لمؤسسات وليس لأفراد فطغت بالتالي أسماء اللقاحات على أسماء مبتكريها.

 

واليوم عندما ينعم أطفالنا بالصحة والعافية بما لديهم من مناعة ضد أمراض فتاكة فلا ينبغي أن تغيب عن أذهاننا أسماء أعلام أمضوا حياتهم كلّها يسعون لابتكار كنوز طبية تدعى اللقاحات. وإذا كنا نذكر (جنر) و (سالك) باحترام كبير. فلا بد من أن نقدر أيضاً الجهود العظيمة التي بذلها رجال آخرون ظلت أسماؤهم في عداد الجنود المجهولين. 

 

 

Close Menu