الحصبة …. والأطفال… والصور .. ورجال الصحافة !!
دكتور… طفلي مصاب بالحصبة…. هكذا أكّدت لي الآن جدّتي. سمير لديه حرارة مرتفعة و اندفاعات حمراء على جسمه. أنا خائفة جداً… هل هنالك معالجة لهذا المرض؟ لقد سمعت أن الطفل قد يصاب بمضاعفات كبيرة نتيجة للحصبة. ماذا علي ّ أن أفعل؟
قلت للأم الخائفة: أحضري طفلك إلى العيادة، وأنا سأقوم بالاتصال برجال الصحافة والإعلام والمصوّرين ليبدؤوا بأخذ الصور.
سألتني: لماذا الصحافة والمصورون؟
حدث كبير
لم تعد الحصبة من الأمراض المشاهدة حقيقة في أمريكا، لدرجة أن مجرّد مشاهدة حالة من الحالات أصبح فعلاً يستدعي التصوير والتوثيق وإبلاغ وزارة الصحة لأن المرض أصبح حدثاً نادراً. فهذا الأمر لا يشاهد في عيادة طبيب الأطفال إلا مرة في كل عدة أعوام ربما.
المتهمة الكبرى
أنا أحب أن أسمي الحصبة المتهمة الكبرى. فكلّما حصل لدى أي طفل نوع من الاندفاعات الجلدية قالت الأم إن طفلها (محصّب!!). وكلما ذكرت الاندفاعات شخصت خطأ ً من جميع الجدّات والــ (خبيرات) في العائلة على أنّها (حصبة). وعندما تذكر الحصبة لا تنسى الجدّات أن يرفقن مع تشخيصهن (الصائب دائماً) مجموعة كاملة من المضاعفات اللاتي يؤكدن أنها ستحصل دون أي شك. ولكن السؤال المهم الذي يجب أن يستخدم كقاهر للخرافات والأوهام هو …. ما هي الحصبة حقيقة ً؟
ماهي الحصبة؟
هي عبارة عن مرض فيروسي يسببه نوع من الفيروسات المنتمي إلى مجموعة (باراميكسوفيروس). وتبلغ فترة حضانة المرض 10 ــ 12 يوماً. ثم تظهر الأعراض التي هي عبارة عن حمى تبلغ فيها الحرارة حتى 105. ويحصل فيها أيضا سيلان الأنف والسعال. وربما حصل التهاب الملتحمة المتجلّي باحمرار في المنطقة البيضاء من العين وخروج بعض المفرزات منها. وبعد حوالي 2 ــ 4 أيام من بداية الأعراض، تظهر الاندفاعات الجلدية المتميّزة التي تبدأ في مقدمة الرأس (عند ما يدعى خط الشعر) ثم تبدأ بالنزول إلى الوجه ثم العنق ثم الصدر وتتابع انتشارها إلى أن تصل إلى نهاية الأطراف. وللاندفاعات شكل مميّز حيث تكون شديدة الاحمرار وهي تتحد لتشكل ما يشبه الجزر الحمراء. وبالتالي فإن الطبيب يستطيع أن يفرّق بسهولة بين اندفاعات الحصبة (الحقيقية) والاندفاعات الأخرى الناجمة عن الفيروسات مثل (الحصبة الألمانية) مثلاً … وأشكال الاندفاعات الفيروسية الشائعة التي تتخذ أشكالاً أخرى تختلف عن الاحمرار الشديد المتمثل بالجزر الاندفاعية.
العدوى
إن الحصبة من الأمراض شديدة العدوى، لدرجة أن 90% ممن هم بتماس مع المريض سيصابون بالمرض. ويتم الانتقال عن طريق القطيرات التنفسية التي تطرح بالسعال والعطاس. وفي حال تلوّث السطوح بالمفرزات فإن الفيروس يبقى حياً لمدّة ساعتين، وبالتالي فإن أي شخص يكون على تماس بهذه المفرزات هو معرّض أيضاً للإصابة بالمرض.
المضاعفات
عندما يتم الحديث عن الحصبة فإن أوّل ما يتبادر إلى الذهن هو الخوف من مضاعفاتها. وفي الحقيقة فإن المضاعفات تعتبر شائعة في الحصبة حيث يعاني من أحدها 20% من جميع المصابين. وهي أشيع في الأطفال تحت 5 سنوات من العمر، كما تشيع أيضاً فيمن
تجاوز الــ 20 عاماً. ومن المضاعفات التهاب الأذن الوسطى وهي تحصل في 10% من الحالات. وتحصل ذات الرئة في 5% من المصابين. أما الشكل الخطر من المضاعفات وهو التهاب الدماغ فيحصل في 1 في كل ألف من الحالات. وهنالك أمر لا بد من الحديث عنه، وهو إصابة الحامل. إن الحصبة قد تؤدي إلى الإجهاض عند الحامل، كما قد تؤدي إلى الخداج (الولادة المبكرة) ونقص وزن الوليد .
وفي البلدان النامية حيث يشيع عوز الفيتامين (آ)، فإن الحصبة قد تؤدي إلى الوفاة، كما أنها قد تسبب فقد البصر. ويعتبر هذا المرض السبب الأوّل لفقد البصر في أفريقيا وهو يسبب وفاة مليون طفل في العالم كل عام. وهذه الأرقام المرعبة تعطينا فكرة عما يمكن أن تسببه الحصبة في المناطق التي لا تتوفر فيها العناية الصحية اللازمة.
اللقاح
يتم تلقيح الأطفال ضد الحصبة من خلال ما يعرف باسم لقاح M.M.R وهو لقاح حي مضعف (أي أن الفيروسات فيه هي حية ولكنها أضعف من أن تسبب المرض نتيجة لما أجري عليها من تغيّرات مخبرية). وهذا اللقاح يمنـّع ضد الحصبة والحصبة الألمانية والنكاف. وقد حصل هذا اللقاح على الرخصة في عام 1971. ويعطى هذا اللقاح في عمر (12 ــ 18 شهراً) ثم يعاد بعمر 4 سنوات. وقد أضيف إليه مؤخراً (في عام 2006) لقاح جدري الماء أيضاً. لقد أفاد العالم من هذا اللقاح إفادة عظيمة جداً، فقد أصبحت الإصابة بالحصبة أمراً نادراً فعلاً في العالم المتقدّم. ويكفي أن نعلم أنه قبل استخدام اللقاح كانت هنالك 450 ألف حالة من الحصبة في كل عام في الولايات المتحدة، وكانت تؤدي إلى 450 وفاة. إن معظم الأطفال يحصلون على الأضداد المعارضة للحصبة والحصبة الألمانية والنكاف من أمهاتهم أثناء الحمل. وعادة ما ينتهي مفعول هذه المناعة الوالدية السلبية بعمر 12 شهراً. إن هذه الأضداد قد تقوم بتحطيم (المستضد) في اللقاح وجعله غير فعّال في حال أعطي اللقاح قبل سنة من العمر. وهذا هو السبب في تأخير اللقاح إلى ما بعد عمر سنة.
وهنالك كلمة لا بد من ذكرها لــ(أعداء اللقاح) الذين لا يتوقفون عن التركيز على مثالب اللقاحات ولا سيما لقاح الحصبة والحصبة الألمانية والنكاف. فهنالك مشكلتان تم الحديث عنهما بشكل شائع. أوّلهما التهاب الدماغ. فهؤلاء الناس يحلو لهم ذكر أن اللقاح قد يسبب التهاب الدماغ. ولكن إذا علمنا أن احتمال حصوله مع اللقاح هو واحد في كل عشرة ملايين، وأن احتمال حصوله مع المرض نفسه هو واحد في الألف علمنا أن هؤلاء الناس يذكرون دائماً (نصف الحقيقة) ونصف الحقيقة لا يكفي. والمشكلة الأخرى هو اتهام هذا اللقاح بإحداث التوحّد الطفلي، وهو أمر كان عبارة عن اعتقاد وظن، وقد قامت بدراسته ــ وبشكل جدي ــ لجنة على مستوى عالٍ من الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال وأثبتت خطأ هذا المعتقد. إن هذا اللقاح الذي ساعد على التخلّص شبه الكامل من مرض الحصبة الخطر والقاتل أحياناً هو أمر لا نستطيع أن نتخلّى عنه بسهولة نتيجة لإشاعات لا قيمة لها في واقع الأمر.
ألا يزال المرض يحصل؟
إن حالات الإصابة بالحصبة في أمريكا مرتبطة اليوم بالمهاجرين من البلاد الأخرى. وعلى الرغم من أن القانون يتطلّب أخذ اللقاحات قبل دخول البلاد ، إلاّ أن بعض الزوّار لا يزالون يأتون بالفيروس أحياناً نتيجة لعدم نجاح اللقاح الذي تلقوه أو لأسباب أخرى متعلّقة بحفظه وتبريده في بلدان العالم الثالث. وقد تحصل بين الآونة والأخرى حالات محدودة من انتشار الفيروس في مناطق محلية أو قرى أمريكية نتيجة للفيروس (المستورد) عن طريق المهاجرين. ولكن يبقى هذا الانتشار محدوداً ولا يصل إلى درجة الجائحة نتيجة لكون معظم الناس ملقحين في البلاد ونتيجة للدرجة العالية من التمنيع التي يتم الحصول عليها من اللقاح.
اندفاع فيروسي بسيط
عندما دخلت الأم إلى عيادتي كانت مذعورة فعلاً. سألتني: أين رجال الإعلام والمصوّرون؟
قلت لها ــ بعد أن قمت بفحص طفلها الصغير ــ : يبدو يا سيّدتي أننا لن نضطر لاستدعاء رجال الإعلام اليوم.
* وكيف ذلك؟
ــ طفلك مصاب بما نسميه الاندفاع الفيروسي البسيط، وهذا أمر نشاهده كل يوم ولا يستدعي حضور رجال الإعلام.
* ولكن جدتي أخبرتني بأنها متأكدة من أن طفلي مصاب بالحصبة!!
ــ في هذه الحالة فسأستدعي أحد رجال الصحافة ليجري مقابلة مع جدتك الكريمة لعله يستطيع أن يعالج هذه الظاهرة التي يبدو أننا سنعاني منها طيلة القرن الحالي على الأقل.
سألتني: أية ظاهرة؟
ــ ظاهرة الجدات و المشكل العويص في ادّعاء القدرة على التشخيص!!