الإنفلونزا وأنف العنزة!!

  


الإنفلونزا


وأنف العنزة!!


 


 


أحد الكوميديين العرب قال مبالغاً : إن كلّ علوم الغرب وآدابه مأخوذة عنا نحن العرب! والدليل أن كلمة Sugar الإنكليزية أصلها كلمة (سكر) العربية أما (شكسبير)  فأصله عربي قح و قد سمي على اسم جده (الشيخ أسبر)! وأما كلمة (الإنفلونزا) فأصلها  (أنف العنزة) !


 


 في ذلك الوقت كنت طالباً متحمّساً و أخذت الموضوع على محمل الجد. أليس عظيماً أن نضيف نحن العرب إلى اكتشافاتنا و اختراعاتنا الفريدة مثل المعلّقات المذهّبة وسوق عكاظ والمربد وغيرها، أشياء جديدة و نكون قد قدّمنا للغرب أحلى أطعمته و أعظم شعرائه و أعرق أمراضه؟


 


و كم كانت خيبتي كبيرة عندما وجدت ، بعد أن بحثت الأمر مستنجداً بالمعاجم و القواميس، أن الأمر لم يكن له أصل مطلقاً فيما يخص  شكسبير و الإنفلونزا و كان عزائي الوحيد أن موضوع أصل كلمة Sugar كان صحيحاً. ولكن بعد التجربة وجدت أن الكوميدي العربي ربما كانت لديه وجهة نظر فيما يخص موضوع الإنفلونزا. طبعاً أقصد وجهة نظر فنية وليس لغوية أو علمية بأية حال!


 


 


داءٌ له تاريخ


 


إن أوّل من وصف الإنفلونزا في التاريخ كان أبوقراط Hippocrates و ذلك في عام 412 قبل الميلاد. فقد ذكر في سجلاّته شيئاً عن “جائحة سعال” تتبعها ذات رئة حصلت في مدينة “برنيثوس” في شمال اليونان.


 


 


وعلى الرغم من أن المرض قد سبب جائحات على مدى التاريخ، فإن من الصعب إثبات أن تلك الجائحات كانت فعلاً جائحات إنفلونزا. والسبب أن الأعراض قد تتشابه مع أعراض أمراض أخرى مثل التيفوئيد والطاعون والتيفوس وغيرها من الأمراض. ولكن أغلب المؤرخين الطبيين يعتقدون أن أوّل جائحة توفرت أدلّة مقنعة على أنها ناجمة عن الإنفلونزا حصلت في عام 1580  حيث بدأت في روسيا وانتشرت إلى أوربا وأفريقيا. وقد توفي في تلك الجائحة 8000 إنسان في روما وحدها وفني سكان العديد من مدن إسبانيا. ثم حصلت جائحة أخرى بين عامي 1830 و1833.


 


و على العموم يعتقد المؤرخون أن هنالك  31 جائحة  من الإنفلونزا حصلت عبر التاريخ كان أسوأها قطعاً ما دعي بــ (الإنفلونزا الإسبانية) التي حصلت في عام 1918 و ذهب ضحيتها 20 مليون إنسان في العالم.  و في عام 1933 تم في لندن اكتشاف الفيروس الذي يسبب هذا الدّاء في البشر. و منذ ذلك الحين حصلت جائحتان واحدة في عام 1957 راح ضحيتها 70 ألفاً من البشر و الأخرى في عام 1968 و قد راح ضحيتها 34 ألفاً  . ولا بد أن نذكر أنه على الرغم من أن عصرنا اليوم هو عصر التقدم الطبي، وعلى الرغم  من تطوّر الأدوية والمشافي ووجود الأطقم الطبية المدرّبة. فإن الإحصائيات تقول إنه في البلد الأكثر تقدماً في العالم، بلغ عدد الوفيات السنوية الوسطي بين عامي 1980 و2001 أكثر من 40 ألف وفاة بسبب الإنفلونزا ومضاعفاتها ويبلغ عدد حالات القبول السنوية إلى المشافي بسبب المرض 200 ألفاً.


 


 


الاسم


 


 


الحقيقة أن كلمة إنفلونزا  Influenzaهي إيطالية وتعني (التأثير) أي أنها تساوي كلمة Influenceالإنكليزية وهي تأتي من الأصل اللاتيني influentia .  وأصل المعنى أن الاعتقاد السائد في العصور القديمة كان يتلخّص في أن المرض ناجم  عن (تأثير) النجوم والكواكب!! وبعد تقدم العلم الطبي تم تعديل الاسم إلى  influenza del freddoوهو يعني (تأثير البرد). ولقد تمّ تبنّي كلمة إنفلونزا للمرة الأولى باللغة الإنكليزية عام 1743 خلال حصول جائحة من المرض في أوربا. ويسمى المرض في اللغة الفرنسية grippe وهي كلمة تشيع في بلادنا للتعبير عن المرض.


 


 


 


الفيروس


 


ينجم المرض عن فيروس من نوع الــ RNA  . وهو ينتمي إلى عائلة من الفيروسات تسمى Orthomyxoviridae. وهذا الفيروس يصيب الطيور والثدييات. والفيروس يمكن قتله بوساطة أشعة الشمس والمطهّرات والمنظفات كالصابون. وبالتالي فإن غسل اليدين المتكرر هو من أهم الوسائل في التخفيف من حصول المرض.  ينتقل هذا الفيروس بوساطة الرذاذ التنفسي (السعال و العطاس)، تبلغ فترة حضانته 24- 72 ساعة. و يتجلّى بحرارة و سعال و ألم في البلعوم، إضافةً إلى آلام العضلات و المفاصل و الظهر و التعب العام. و ربما حصلت معه مشاكل إضافية كالتهابات ملتحمة العين و البلعوم و  القصبات و الإسهال و الإقياء. و يحصل الشفاء عادةً خلال أسبوع إلى أسبوعين. و لكن أعراض التعب و الضعف العام قد تستمر لعدة أسابيع. و من مضاعفاته ذات الرئة و الزلة التنفسية.


 


زكام أم إنفلونزا؟


 


كما ذكرنا، فإن الإنفلونزا تسمى باللغة الفرنسية Grippe.وقد انتشر هذا الاسم للدلالة على المرض في بلادنا العربية ولا سيما في بلاد الشام. وإن من الشائع أن يقال إن فلاناً مصاب (بالكريب) في حال حصول أية أعراض مثل سيلان الأنف أو العطاس أو ارتفاع الحرارة. وكثيراً ما يكون الشخص المشار إليه مصاباً في الحقيقة بالزكام الشائعCommon Cold  أو ما يسمى في بلادنا أيضاً بالرشح. إن المرضين مختلفان تماماً وينجمان عن فيروسات مختلفة، حيث أن الزكام الشائع ينجم عن عدة فيروسات أشيعها ما يدعىrhinovirus وهو ينتمي إلى فئة picornavirus ، إضافة إلى فيروسات أخرى عديدة . وقد يكون من الصعب التفريق بين الحالتين. فكلاهما مرض فيروسي تنفسي. وبشكل عام فإن الإنفلونزا أكثر شدة من الزكام الشائع، وإن أعراضاً مثل ارتفاع الحرارة وآلام الجسم والسعال الجاف والتعب الشديد (الدعث) هي أشيع في الإنفلونزا منها في الزكام. أما في الزكام فيشيع سيلان واحتقان الأنف. وبعكس الإنفلونزا، لا يؤدي الزكام إلى مضاعفات صحية خطرة مثل ذات الرئة والالتهابات الجرثومية والقبول إلى المستشفى. ومع هذا فقد يكون التفريق بين المرضين صعباً حتى على الطبيب من خلال الأعراض والعلامات وحدها، فيضطر  إلى إجراء فحوص مخبرية تعتمد على أخذ (غسالة الأنف   nasal wash) وإرسالها إلى المخبر للحصول على تشخيص دقيق.


 


 


 عُرِفَ السبب ، بطُلَ العجب


 


لقد ذكرنا هذه الأعراض بدقّتها لنبيّن أمراً هامّاً للأمهات اللاتي تستغرب الكثيرات منهن أن أطفالهن تستمر لديهم الحمى لفترة طويلة على الرغم من تناولهم لخافضات الحرارة. من المهم أن يعلم الأهل أن خافضات الحرارة تعطى للسيطرة على الأعراض فقط و لكنها لا تقضي على المرض و لا تقتل الفيروس. إن فيروس الإنفلونزا قد يؤدي إلى أعراض تستمر  لفترة طويلة كما ذكرنا. و بالتالي فلا داعي للخوف و الاستغراب. كما أن الصادات التي نعالج بها الإنتانات الجرثومية لا تفيد في علاج الإنفلونزا إلاّ إذا حصلت بعض العقابيل كالتهاب الرئة مثلاً.


 


 


 فيروس له تكتيك


 


لما كانت هنالك الكثير من الصعوبات في المعالجات الهادفة لقتل فيروس الإنفلونزا، فإن أفضل طريقة لمحاربة المرض هي اللقاح. إن اللقاح يعطي مناعة جيدة لفيروسات الإنفلونزا الشائعة. و لكن الأمر الهام في الموضوع هو (التكتيك) الرهيب الذي يتمتع به فيروس الإنفلونزا. هذا الفيروس يقوم بتغيير تركيبته الوراثية على الدوام. و بالتالي فإن العلماء يقومون بدراسة (الطبعات) الجديدة من هذا الفيروس كل عام و يقومون بتطوير اللقاح على هذا الأساس. و يقتضي هذا الأمر أن يعاد إعطاء اللقاح كل عام لحصول الوقاية. علماً بأن الخاصية التي يتمتع بها الفيروس هي السبب وراء حصول (جائحات) تحصل بين الفترة والأخرى. فالسبب في هذه الجائحات هو وجود (سلالة) جديدة من الفيروس ناجمة عن اكتسابه لجينات جديدة يحصل عليها من خلال رحلاته المستمرة في جسم الإنسان والطيور والحيوانات الثديية كالخنازير(وهذا بالطبع ماسبب ما يدعى إنفلونزا الطيور وإنفلونزا الخنازير وهو ما سنتكلّم عنه لاحقاً).


 


 


فيروسات لا فيروس


 


هنالك في الحقيقة ثلاثة أنواع لفيروسات الإنفلونزا وهي:Influnza A وInfluenza B وInfluenza C.


 


 إن نوع الإنفلونزا  Aهو أكثر الأنواع انتشاراً والأشد فوعة (أي إمكانية إحداث المرض) وتعتبر الطيور المائية من أهم المستودعات لهذا الفيروس. وبين الآونة والأخرى تنتشر الفيروسات من هذه الطيور إلى الطيور الداجنة وربما أدّت إلى جائحات بين البشر. وينتمي إلى الإنفلونزا A العديد مما يسمى (النماذج المصلية) Serotypes وذلك بناءً على فحوص مخبرية تعتمد الاستجابة الضدّية للجسم تجاه هذه الفيروسات. إن الأنواع التي ثبت حصول إصابات بشرية بسببها هي:


H1N1 وهو النموذج المؤدّي إلى إنفلونزا الخنازير في عام 2009 وهو النموذج أيضاً الذي أدّى إلى حصول الإنفلونزا الإسبانية في عام 1918


H2N2 وهو النموذج الذي أدّى إلى حصول الإنفلونزا الآسيوية عام 1957


H3N2 وقد كان السبب في إنفلونزا هونغ كونغ عام 1968


H5N1 وهو النموذج المؤدي لإنفلونزا الطيور


وهنالك أنواع أخرى مثل H7N7  وH1N2 و H9N2وH7N2 وH7N3 و H10N7 ونحن نقوم بذكر هذه الأرقام والحروف لسبب بسيط وهو أن القارئ لا بد أن تكون وقعت عيناه عليها من خلال وسائل الإعلام المقروءة والمرئية فتحوّلت بالنسبة له إلى ألغاز محيّرة، وفي حقيقة الأمر هي عبارة عن رموز لتسهيل التفريق بين النوع والآخر.


 


أما نوع الإنفلونزاB  فهو محصور في البشر عملياً وإن ذكرت إصابات به في حيوان الفقمةseal  والغرير ferret.  وهو أقل شيوعاً من إنفلونزا A. وقدرة هذا النوع على الطفرة هي أقل بمرتين إلى ثلاث مرات من النوع A . وبالتالي فإن هنالك نوعاً من المناعة يطوّرها الإنسان تجاه هذا النوع من الإنفلونزا في مراحل العمر المبكّرة، وإن كانت المناعة ليست دائمة لأن الطفرات موجودة وإن كانت قليلة. إن محدودية الحيوانات المضيفة ونقص القدرة على الطفرة أدّت إلى عدم حصول جائحات بهذا النوع من الإنفلونزا.


 


وأخيراً هنالك الإنفلونزا C وهي تصيب البشر والكلاب والخنازير. وربما أدّت إلى حالات شديدة وربما أوبئة محليّة. وهي في كل الأحوال أقل أشكال الإنفلونزا شيوعاً.


 


 


 


 


 


 المعالجة


 


 


إن المصاب بالإنفلونزا يجب أن يتناول كميات كبيرة من السوائل وأن يخلد إلى الراحة ، وأن يتناول بعض الأدوية المسكنة مثل Acetaminophen التي تخفف من الحرارة والألم. ونذكر هنا أن الأطفال والمراهقين المصابين بالإنفلونزا (خصوصاً من النمط B) يجب أن يتجنبوا تناول الأسبرين لأن أخذه في هذه الحال قد يؤدّي إلى مرض خطر يدعى متلازمة راي  Reye’s Syndromeوالتي تتميّز بأذية شديدة في الكبد والدماغ.


 


ومن المعروف أن المضادات الحيوية كالبنسلين وغيره لا تفيد في معالجة الإنفلونزا وإن كانت تفيد في معالجة بعض المضاعفات الجرثومية للمرض (الإنتانات الثانوية) كذات الرئة الجرثومية وغيرها.


 


أما بالنسبة للأدوية المضادة لفيروسات الإنفلونزا فإن هنالك دواءين تم استخدامهما في علاج الإنفلونزا منذ سنوات و هما الأمانتادين Amantadineو الريمانتادين Rimantadine وهما ينتميان إلى فئة من الأدوية تسمى (مثبطات البروتين M2) وقد نصحت منظمة السيطرة على الأمراض بعدم استخدام هذين الدوائين في عام 2005 نتيجة لظهور حالات كثيرة من المقاومة لهما. علماً بأنهما فعالان ضد الإنفلونزا Aوليس الإنفلونزا B لأن فيروسB لا يحوي على البروتين  M2. ومن المرعب أن المقاومة لهذين الدوائين في الموسم المذكور وصلت إلى أكثر من 90% في أمريكا، وهذا ناجم عن إمكان استخدامهما دون وصفة طبية في بعض البلدان مثل روسيا والصين، إضافة إلى استخدامهما لمنع أوبئة الإنفلونزا في مزارع الدواجن.


 


أما اليوم فهنالك دواءان يتم استخدامهما في علاج الإنفلونزا (بما فيها إنفلونزا الخنازير) وهما     (تاميفلو) Oseltamivir (Tamiflu) و(رلنزا) Zanamivir (Relenza) وينتمي هذان الدواءان  إلى فئة من الأدوية تسمى (مثبطات النوروأمينيداز Neuroamanidase inhibitors) وهما المفضلان للمعالجة اليوم لكونهما أكثر فاعلية وأقل سمية من الدواءين الأوّلين. وهما فعالان ضد الإنفلونزا A و B. 


 


 


 


 


 ما هوالحل؟


 


درهم وقاية خيرٌ من قنطار علاج. وهذا المثل ينطبق على الإنفلونزا كما ينطبق على غيرها من الأمراض. ولذلك فإن إعطاء اللقاح وخصوصاً للأشخاص الذين يحتمل أن تكون مضاعفات الإنفلونزا عالية وخطرة لديهم هو أمرٌ مهم . إن قائمة الخطر العالي المسنين والمصابين بالأمراض المزمنة كالربو والأمراض القلبية (ونحن هنا نتكلّم عن لقاح الإنفلونزا الموسمية، أما لقاح إنفلونزا الخنازير والفئات التي يعطى لها فيأتي الحديث عنه لاحقاً في الكتاب). إن الذين يعانون من التحسس تجاه البيض قد يكون لديهم تحسس للقاح الإنفلونزا ولذلك يجب الحذر وإخبار الطبيب.  ولا شك أن إعطاء المعالجات الدوائية الملائمة قد خفف كثيراً مما كان يعاني منه  المرضى في الماضي. إن التقدم العلمي قد ساعد كثيراً في الوقاية والمعالجة ولكنه حتى الآن لم يستطع إعطاء حل نهائي لمشكلة اسمها (أنف العنزة) !!


 

Close Menu