الداء السكري
قصة المرض الذي اكتشفه النمل!!
” وأما علامة العطش الكائن بسبب ديابيطس فإنه يكون
عطشاً لا يسكنه شرب الماء، بل كما يشرب الماء يحتاج إلى إخراج
البول. ثم يعود العطش. فيكون العطش والدرور متساويين دوراً “
ابن سينا ــ القانون في الطب
هنالك أمراض تعتمد في تشخيصها على الفحوص المخبرية. وربما كان الداء السكري في طليعة هذه الأمراض، بل هو أشهرها مطلقاً. بيد أن هنالك حقيقة تضع المتأمل في حيرة كبيرة. ذلك أن الداء السكري تم اكتشافه ــ في بعض الآراء ــ في القرن الخامس قبل الميلاد. فكيف تم تشخيصه في زمن سبق الفحوص المخبرية المعروفة؟ ومتى أطلق عليه اسم (الداء السكري) الذي يُعرف به اليوم؟
النمل كان هناك!
يروي التاريخ أن أحد الأطباء الهنود لاحظ في القرن الخامس قبل الميلاد أن النمل يهرع إلى بول بعض المرضى الذين كانوا يعانون من أعراض معينة. واستغرب هذه الظاهرة. وتساءل: ما الذي يمكن أن يجذب النمل إلى البول؟ ثم قاده الفضول العلمي إلى أن …….. (يتذوّق) ذلك البول الذي ينجذب إليه النمل! واكتشف أن طعم البول كان حلواً. فعرف أن هؤلاء المرضى يعانون من داء غريب ينطرح فيه السكر في البول وأطلق عليه اسم Madhumeha أي (داء البول الحلو)!!. وهذه أقدم إشارة ذكرها التاريخ لوصف هذا المرض. ولكنها كانت فقط بداية الحكاية. علماً بأن ذلك الطبيب (استنتج) فقط استنتاجاً بأن السكر ينطرح في البول، أما الإثبات العلمي لذلك فقد تطلّب أربعة وعشرين قرناً بعد ذلك الاستنتاج!
من أعطى الداء اسمه؟
كان (سلسوس)Celsus من أوّل من أشار إلى الداء بوصف علمي حيث ذكر أنه يتصف بزيادة كبيرة في كمية البول. ولكن أول من ساهم في ابتكار الاسم المعروف للمرض في اللغات الأجنبية اليوم Diabetes Mellitus كان (آريتايوس) Aretaeusوكان ذلك في القرن الأوّل الميلادي حيث قدم كلمة Diabetes التي نترجمها اليوم على أنها (البيلة) ومعناها الأصلي (الماء المتدفق في شلال) إشارةً إلى كثرة كمية البول عند المرضى. وأما Mellitus فتعني (العسل) وكان أوّل من استخدمها هو (توماس ويليس) Thomas Willis في عام 1674م …… ثم اتحدت الكلمتان وتطور الاسم ليعبرعن المعنى الواقعي للمرض الذي يسمى علمياً اليوم (البيلة السكرية) فيكون قد ساهم في إتمام الاسم عالمان من عصرين مختلفين. وتأخر الوصف العلمي للمرض من قبل علماء الصين إلى القرن السابع الميلادي حيث ذكره الطبيب (شين شوان).
ابن سينا
الشيخ الرئيس وأشهر الأطباء المسلمين ابن سينا ــ المولود عام 980 م والمتوفى عام 1037 م ــ أدلى بدلوه أيضاً. ففي كتابه التحفة (القانون في الطب) المؤلّف في القرن الحادي عشر الميلادي والمحتوي على مليون كلمة والذي طبع (بالعربية!) في روما عام 1593 للميلاد ، قدم ابن سينا وصفاً دقيقاً للداء السكري بمعايِر ذلك الزمن ويلاحظ أنه كان يذكر المرض تحت اسم (ديابيطس) وهو الاسم الذي كان شائعاً في المراجع اليونانية في ذلك الحين، ويلاحظ من يقرأ الكتاب أن ابن سينا لم يناقش المرض في فصل مستقل ولكنه كان يذكره في سياق الأمراض التي تزيد كمية البول مع إشارة واضحة إلى أن هذا يترافق مع زيادة العطش وكميات الماء المستهلكة من قِبَل المريض. ومما يذكر أن هذا الكتاب استمر كمرجع مقرر في كليات الطب لفترة لم يتمتع بها أي كتاب قبله أو بعده حيث ظل مستخدما بشكل جدي حتى القرن السابع عشرالميلادي. ودقة ابن سينا في وصف الأمراض عموماً جعلت الكتاب يترجم إلى عدة لغات منها اللاتينية (التي كانت له فيها 15 طبعة) والإنكليزية بل لقد كانت له ترجمة عبرية! ويقال إن الكتاب أثر في كثير من العلماء والفنانين الذين كان أحدهم (ليوناردو دافنشي)!
السكّر هو السبب
وفي عام 1784 أوضح العالم (ماثيو دوبسون)Mathew Dobson في أمريكا أن حلاوة بول المصابين ناجمة عن السكر ثم قام (مايكل شيفرول) بعد ذلك بأربعين عاماً بإثبات هذه الحقيقة إثباتاً علمياً يقينياً.
محاولات للعلاج
لقد بدأت محاولات معالجة الداء السكري في مرحلة مبكرة لم يكن يعرف فيها عن المرض سوى البُوال (زيادة كمية البول). وفي عصر لم تعرف فيه آليات المرض كان من الطبيعي أن تعتمد المعالجة بشكل رئيس على الحمية. ولعل أول من طبق الحمية بشكل منهجي كان (جون رولو) الذي حقق بوساطتها نجاحاً نسبياً. وكان (رولو) أول من لاحظ رائحة الأستون في أنفاس بعض المرضى. وفي نفس الفترة لاحظ (توماس كولي) أن غدة البنكرياس في بعض المرضى السكريين كانت مصابة بالحصيات وبالأذية النسجية الظاهرة.
كلود برنار
ربما كان (كلود برنار) Claude Bernardأعظم شخصية في تاريخ الداء السكري. فهو رجل درس علم الصيدلة في بداياته ثم اتجه إلى الطب وأصبح أستاذاً لهذا العلم في فرنسا. وكان صاحب الاعتقاد الشائع ــ في ذلك الحين ــ أن الداء السكري كان ناجماً عن زيادة إفراز السكر من قبل الكبد. ثم اكتشف العلماء بالتدريج أن هذا الاعتقاد كان خاطئاً ولاحظوا ــ في القرن التاسع عشر ــ أن الأمر متعلق بسوء وظيفة لخلايا تدعى (الخلايا بيتا)Beta Cells الموجودة في جزر خلوية خاصة في غدة البنكرياس والتي تعرف اليوم بجزر (لانغرهانس) Langerhans وهي تحمل اسم العالم الألماني Paul Langerhansالذي وصفها في الحيوانات الثديية في عام 1869. ثم اكتشف العالمان الألمانيان (مرينغ)Mering و(مينكوفسكي)Minkowski أن إزالة البنكرياس جراحياً تؤدي إلى الداء السكري في الحيوانات. وكان ذلك مفتاحاً لمعرفة آلية المرض مما كان يقتضي بالضرورة البحث عن علاج نوعي له. وقام عالم روماني يدعى (بانلسكو) بمحاولة ذكية حقن فيها حيواناً بخلاصة البنكرياس فنفق بعد إصابته بالسبات. ونعرف اليوم طبعاً أن سبب السبات كان نقص السكر في الدم بسبب الجرعة العالية التي حقن بها الحيوان من خلاصة البنكرياس. ثم لاحظ (كوسماول) Adolph Kussmaulالعالم الألماني وجود ما يسمى بالسبات السكري (الناجم عن الارتفاع الشديد للسكر والمؤدي إلى تشكل الكيتونات في الجسم). وفي عام 1906 وصف عالم يدعى (نونين) Nonin ما نعرفه اليوم بالحماض السكري.
ثم جاء الإنسولين!
الإنسولين كان يمثل قصة انتصار العلم على هذا الداء الفتاك. ففي عام 1921 وفي كندا كان هنالك طبيب أمراض عظمية (غير ناجح!) يعمل في جامعة (تورونتو) يدعى (فردريك بانتينغ)Frederick Banting اعتقد من خلال قراءاته عن العلاقة بين البنكرياس والداء السكري أنه كان قادراً على العثور على حل. وقد بلغ به الجهل إلى أنه لم يسمع بالمحاولات الكثيرة التي أخفقت في الحصول على هذا الحل. وربما كان هذا أكثر نقطة قوة تمتّع بها!
وقام (بانتينغ) بإقناع أستاذ للفيزيولوجيا في تورونتو بمساعدته في مشروعه الكبير. وشاركهما فيه وعالم آخر يدعى (كوليب) Collip إضافة إلى طالب طب يدعى (بست)Best. وقاموا بإجراء فحوص عديدة على الكلاب. وفي عام 1922 نجح المشروع نجاحاً كبيراً. فقد تمكن الفريق من الحصول على خلاصة شبه نقية للبنكرياس(البقري) وتمكن بوساطتها من علاج شاب اسمه (ليونارد تومسون)Leonard Thompson كان عمره 14 عاماً ويعاني من حالة شديدة من الداء السكري. وتم حقنه بهذه الخلاصة التي سميت (الإنسولين) وكانت النتائج باهرة. وانتشر الخبر في أنحاء العالم وأصبحت تورونتو (مسقط الأطيار) يأتي إليها الأطباء من كل فج عميق ليتعلّموا كيفية تحضير المادة السحرية الجديدة. وقد حصل بانتينغ على جائزة نوبل للطب في عام 1923 مناصفة مع مدير المخبرMacleod .ويذكر أن العالمين اقتسما المال الذي حصلا عليه مع الأشخاص الآخرين المشاركين في البحث. وفي وقت لاحق تم اعتبار تاريخ 14 تشرين الثاني ــ وهو يوم ميلاد بانتينغ ــ يوماً عالمياً للسكري.
والغريب أن اسم إنسولين كان قد تم إطلاقه قبل الاكتشاف الحقيقي لهذه المادة بحوالي 12 عاماً. حيث أن إدوارد شاربي – شيفر Edward Sharpey-Schafer كان قد استنتج في عام 1910 أن هنالك مادة مفردة تفرزها (جزر لانغرهانس) في البنكرياس هي المسؤولة عن استقلاب السكر وأن نقصها يؤدي إلى المرض ، واقترح تسميتها باسم Insulin الذي اشتقه من كلمة Insula التي تعني الجزيرة.
واحتكرت صناعة الإنسولين في أمريكا شركة (ليلي)Eli Lilly بينما قام عالم دانماركي يدعى (كروغ) بتأسيس مؤسسة غير نفعية في كوبنهاجن لصناعة الدواء خارج الولايات المتحدة. ولم تكن المستحضرات المبكرة للإنسولين نقية فقد كانت كل حقنة تتكون من 10 مليليتر، فكانت بالتالي مؤلمة جداً. ثم تم الحصول بالتدريج على أشكال أنقى إلى أن وصل العلاج إلى شكله الحالي. ثم تم ابتكار الإنسولين طويل التأثير المسمى (لنت)Lente في عام 1954. وفي عام 1955 تمكن العالم (فردريك سانغر)Frederick Sanger من جامعة كامبريدج من الحصول على (بلورات الإنسولين) الصافية وحدد ترتيب الحموض الأمينية فيه فحاز على جائزة نوبل.
علاجات فموية
ومن خلال تطور المعرفة بالداء السكري أدرك العلماء أن هنالك نموذجين للمرض. النموذج (1) وهو المعتمد على الإنسولين. أي لا يمكن علاجه إلا بإعطاء الإنسولين. والنموذج (2) الذي يمكن علاجه بأدوية تشجع البنكرياس على إفرازه. ومن هنا أتت فكرة المعالجات الفموية. وكانت أول مجموعة من خافضات السكر الفموية الأدوية المسماة (السلفونيل يوريا) Sulfonylureaوالتي اكتشف تأثيرها صدفة ً في خفض سكر الدم بعد أن كان يتم تجريبها لمعالجة التيفوئيد. اسم المكتشف كان (جونبون). وقدم اكتشافه على طبق من ذهب لعالم الفيزيولوجيا (لوباتيير) الذي طبقه في علاج الداء السكري فموياً عند الحيوانات. كان ذلك في عام 1944. وتم استخدام هذه الأدوية في الإنسان عام 1954 من قبل (فرانك) و( فوكس) في برلين فكان ذلك حلماً علمياً آخر يتحقق. ثم تم ابتكار أدوية أخرى كالـ (بيغنانيد) في الخمسينات. ثم تم تقديم الـ (ميتفورمين)Metformin في السبعينات وتم تطويره في الثمانينات. أما عصرنا الحالي فيشهد أدوية جديدة من هذه الفئة باستمرار. ويذكر أن التمييز بين نموذجي الداء السكري أي السكري (1) والسكري (2) تم في عام 1936 من قبل هارولد هيمسورث Harold Himsworth. وسنتحدث عن المرض بنوعيه في مقال لاحق في هذا الكتاب.
تاريخ يكمله المستقبل
وبعد فهذه فصول مختصرة عن قصة تشخيص وعلاج الداء السكري. إن كل ما نرجوه هو ألا تشكل هذه الفصول كل تاريخ هذا الداء بل أن توضع فصول نهايته السعيدة في المستقبل القريب. فالعلماء يعملون كل يوم بجد كبير ودأب عظيم لاكتشاف أدوية جديدة تقدم الشفاء من هذا المرض. هم يعملون بنفس الدأب الذي يعمل به النمل الذي قام منذ ألفين وخمسمائة عام باكتشاف داء يدعى الداء السكري!