تاريخ طب الأطفال … من الرازي إلى جاكوبي!!
” لقد قام الرازي بوضع وصف صحيح للجدري
وللحصبة تماماً كما قام بوصف تجاربه الكيماوية “
فيفيان نوتون ــ تاريخ كامبريدج للطب
كثيراً ما أُسأل عن الفرق بين طب الأطفال وطب الكبار. ولديّ جواب واحد على هذا السؤال لا آتي به من تجربتي الخاصة فقط ولكن من الدراسات والإحصاءات المنشورة والمعترف بها بين الأطباء. الفرق الرئيس والهام هو أن طبيب الأمراض الداخلية أي طبيب (الكبار) يتعامل مع عدد محدود من حالات مشهورة، أما طبيب (الأطفال) فيتعامل مع عدد ضخم جداً من أمراض نادرة! هذا التحديد يبيّن ببلاغة ووضوح الفرق الضخم فعلاً بين الاختصاصين.
لننظر إلى الطبيب الذي يتعامل مع المرضى البالغين. مع أية أمراض يتعامل؟
هنالك ارتفاع الضغط الشرياني، والداء السكري والخناق الصدري والاحتشاء القلبي والسكتة الدماغية والربو والداء الرئوي الانسدادي وأمراض أخرى. هي أمراض يتعامل معها بشكل يومي، وبالتالي فإن اكتساب الخبرة فيها سهل. ولا بد للطبيب أن يتقنها بعد ممارسة تستمر لسنوات.
أما طبيب الأطفال ــ من جهة أخرى ــ فإنه يتعامل مع بعض الأمراض بشكل يومي مثل الربو والتهاب الأذن الوسطى والتهاب الجيوب والتهاب البلعوم والداء السكري وغير ذلك، ولكن تعتبر هذه الأمراض الشائعة (هضبات) تربض خلفها (وحوش) الأمراض النادرة التي قد لا يسمع الناس عنها إلاّ في الكتب والأخبار التلتفزيونية والإذاعية ولكنها تتمثل بين الآونة والأخرى وحوشاً ، على طبيب الأطفال أن يمسك بها. وما أكبر الفرق بين الاختصاصين.
نحن نقر طبعاً بأن لكل اختصاص طبي وغير طبي في الدنيا صعوباته ومشاكله، والشخص الخبير في اختصاصه يمكنه أن يذكر مصاعب هذا الاختصاص ولكنني هنا أنقل فعلاً ملاحظات العلماء ومشاهدات الخبراء في هذا الشأن.
إن الإحصاءات تقول إن معظم الأمراض النادرة يتم تشخيصها عادة في عيادات أطباء الأطفال. مَن مِن الناس سمع مثلاً بمتلازمة (هنوخ شونلاين)؟ ومن يعرف شيئاً عن مرض (كاواساكي)؟ ومن شاهد شخصاً مصاباً بمتلازمة (غيلبرت) أو (كريجلر نجار) وغيرها؟ طبعاً هذه أمراض ندر من سمع عنها، والمهمة الصعبة لطبيب الأطفال هي أن يبحث عنها بشكل يومي، ثم بعد أن يجدها أن يكون له حديث طويل مع الأهل يشرح لهم المرض وأبعاده ويمتص المفاجأة ــ والصدمة ــ التي كثيراً ما يعاني منها الأهل في مثل هذه الظروف. بطبيعة الحال، فإن طبيب الأطفال قد واجه هذه الأمراض أثناء مرحلة الاختصاص والتعلّم في المشافي التعليمية. ثم قد يشخّص واحدة من هذه الأمراض النادرة مرّة كل عشر سنوات بل ربما مرة واحدة فقط خلال جميع سنوات ممارسته الطويلة، وبالتالي فإن عليه أن يبقي عينيه مفتوحتين بشكل مستمر وأذنيه باحثتين عن صوت قلبي ذي دلالة طبية أو علامة خاصة قد ترشد إلى مرض نادر.
والمشكلة أن هذا التوفز الدائم والانتباه موجودان لدى طبيب الأطفال حتى عندما يتعامل مع طفل مصاب بأبسط الأمراض كالزكام والتهاب المعدة والأمعاء وهذا لسببين. أوّلهما أن أبسط الأمراض الفيروسية قد تؤدي من خلال مضاعفاتها إلى أمراض نادرة ومعقدة لدى الأطفال، وثانيهما أن أبسط الأعراض قد تدلّ على أخطر الأمراض. فالشحوب الذي قد يكون دلالة على نقص في الحديد يعالج بسهولة بالأدوية الحاوية على الحديد، ربما يدل ــ في حالات أخرى ــ على انحلال دموي شديد ناجم عن عوز في إنزيم أقل ما يقال عنه إنه (غير مشهور) لدى الناس ويدعى (غلوكوز 6 فوسفات دي هيدروجيناز)!! وعلى الطبيب أن يقرر بين تشخيصين يُطلب إلى الأهل في أحدهما (المرض الأوّل) أن يطمئنوا وأن يعطوا الطفل الحديد ومراجعته بعد ثلاثة أشهر، أما في المرض الآخر فإن الحال خطر والأهل بحاجة إلى نقل الطفل فوراً إلى غرفة الإسعاف وإلاّ فإن الطفل قد ينهار خلال ساعات!! إن طبيب الأمراض الداخلية الذي يتعامل مع الكبار يتعرّض لظروف مشابهة، ولكن طبيب الأطفال يتعامل مع هذه الأمور ويتخذ هذا الشكل من القرارات بشكل يومي تقريباً.
طب الأطفال
إن طب الأطفال هو الفرع من الطب الذي يتعامل مع أمراض الولدان والرضع والأطفال والمراهقين حتى عمر يتراوح بين 14 إلى 18 سنة (حسب البلد) وهو يستمر حتى عمر 18 سنة في أمريكا. إن الفروق الضخمة بين الكبار من جهة وبين الولدان والرضع والأطفال والمراهقين من جهة، تستدعي وجود أخصائي خبير بتلك المرحلة الهامة من الحياة مع التذكير بأن هنالك فروقاً أيضاً بين المراحل المختلفة للطفولة تستدعي الخبرة الإضافية بكل مرحلة على حدة. فهنالك طبيب الأطفال المختص بعلم الوليد، وأيضاً هنالك المختص بطب المراهقة.
من أسس طب الأطفال؟
هنالك اعتراف في العالم الغربي بكون (محمد بن زكريا الرازي) هو المؤسس الأوّل لطب الأطفال. وقد قام الرازي بتأليف كتاب اسمه (أمراض الأطفال) وهو أوّل كتاب في التاريخ يتكلّم عن هذا الاختصاص بشكل نوعي بحيث جعله مستقلاً عن بقية فروع الطب، وفي هذا مافيه من سعة الأفق واستشراف المستقبل وفهم طبيعة الطب الذي يفرّق بين المرضى وفقاً لوضعهم الفيزيولوجي والنفسي والصحي عموماً.
ووفقاً للبيروني فقد ولد الرازي في الري في بلاد فارس في عام 865 للميلاد (251 للهجرة) وتوفي عام 925 للميلاد (313) للهجرة. وكان أستاذه علي بن سهل الطبري من روّاد علم (التطوّر لدى الأطفال) وقام بمناقشة هذا العلم في كتابه (فردوس الحكمة) وقام بتأليف كتاب آخر هو (موسوعة الطب).
ويكفي أن نذكر هنا أن أول مؤلّف في العالم الغربي تم تخصيصه لطب الأطفال هو (كتاب الأطفال) الذي قام بكتابته الطبيب (توماس فاير) في عام 1530. وقد كانت مراجعه الأصلية هي أعمال الرازي وابن سينا!!
أوّل مستشفى
لقد بدأت ممارسة طب الأطفال كاختصاص مستقل في العالم الغربي في القرن التاسع عشر حيث تم افتتاح (مستشفى الأطفال المرضى ) في شارع أورموند في لندن وذلك في عام 1852. أما اليوم فيبلغ عدد مستشفيات الأطفال في أمريكا وحدها 250 مستشفى وهذا يشكل حوالي 5% من العدد الإجمالي للمستشفيات في البلاد وذلك حسب تقرير (الجمعية القومية لمشافي الأطفال والمؤسسات ذات العلاقة) في أمريكا. ويبلغ عدد القبولات السنوية 3 ملايين. وأما أشيع الحالات قبولاً فهي الأمراض التنفسية والتي تشكل 17% من القبولات ثم الهضمية ثم أمراض الولدان فالحالات العصبية ثم الكسور.
أوّل طبيب أطفال غربي
وأما أول طبيب أطفال في العالم الغربي فهو الطبيب الألماني (آبراهام جاكوبي) المولود في عام 1830 والمتوفى عام 1919 وهو ــ على الرغم من كونه ألمانياً ــ فإنه يعتبر والداً مؤسساً لطب الأطفال في أمريكا وهو الطبيب الوحيد في تاريخ أمريكا الذي ولد في بلد أجنبي وتسلّم منصب رئيس الجمعية الطبية الأمريكية American Medical Association. ولا يزال (مركز جاكوبي الطبي) في برونكس في نيويورك يحمل اسمه حتى اليوم.
جمعيات أطباء الأطفال
لا يخلو بلد في العالم من جمعية للأطباء الأخصائيين بأمراض الأطفال. وفي أمريكا فإن (الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال) هي المؤسسة التي تحمل لواء هذا الاختصاص وتجمع أطباء الأطفال تحت راية واحدة وتقوم بنشر الكتب والمجلات ذات الأهمية الخاصة والتي تتم من خلالها مناقشة المواضيع الهامة في الاختصاص ويبلغ عدد أعضائها 75 ألف طبيب أطفال. وقد تم تأسيسها عام 1930 ومركزها الأساس في مدينة (إلك غروف فيلج) Elk Grove Village قرب شيكاغو بولاية إلينوي. وفيها 400 موظف يقومون بتنسيق أعمالها ذات الأشكال المتعددة.
مسؤولية مضاعفة
إن اختصاص الأطفال بما يحمله من خصوصيات وصعوبات ، له تميّز خاص بين جميع الاختصاصات الطبية. وهو يحمل صبغة إنسانية متميّزة تتلخص في أن التعاطف مع الطفل هو تعاطف مضاعف، فإضافة إلى التعاطف مع الطفل كونه إنساناً فإن هنالك عاملاً إضافيّاً هو كون الطفل أمانة في أيدي الأهل والطبيب لأنه لا يستطيع أن يتخذ قراراً وحده مما يحمّل الطبيب والعائلة مسؤولية من نوع خاص ولكن له ميزة إضافية هي مصدر سعادة خاصة للطبيب، وهي تتلخص في أن طبيب الأطفال يصبح مستشاراً تعطيه العائلة ثقتها الغالية في أمور تتجاوز صحة الطفل إلى صحة العائلة بل وأمورها الاجتماعية العامة أحياناً. إن ابتسامة الصحة التي ترتسم على وجه طفل تعوّض طبيب الأطفال عن المعاناة الكبيرة التي يواجهها يومياً أثناء ممارسة اختصاصه.