حفلات جدري الماء!!

كثيراً ما تحكي لي الجدات الأمريكيات عمّا كان يحدث في الأيام الخوالي. وعندما أقول الأيام الخوالي فأنا لا أعني مائة عام مضت، بل ربما  ثلاثين أو أربعين عاماً. في تلك الأيام عندما كان طفل في الحي أو في العائلة يصاب بجدري الماء فإن عائلته تخبر العائلات التي لديها أطفال صغار، و يقام حفل يسمى (حفل جدري الماء!) ويقوم الأهل في تلك المناسبة بإحضار أطفالهم ليجتمعوا مع الطفل المصاب كي يصاب جميع الأطفال بمرض جدري الماء دفعة واحدة و (ينتهي الأمر).

معهن حق

عندما كنت أسمع هذه القصة كانت تثير لدي الضحك في البداية، فما هي الحكمة في أن تسرّع حصول داء جدري الماء لدى الطفل؟ ولكنني بعد الممارسة عرفت أن أولئك الأمهات كان لديهن وجهة نظر في هذا الأمر.

أسماء لمسمى واحد

في كل بلد عربي يوجد اسم مختلف لجدري الماء! ولكننا هنا آثرنا أن نذكر الاسم الفصيح المبسّط وهو( جدري الماء) و إن  كان  العرب يطلقون عليه في غابر الزمان اسم (الحماق) وهو اسم ثقيل على السمع آثرنا ألاّ نستعمله هنا.  وفي بعض البلاد العربية يطلق عليه بالعامية خطأً اسم (الجدري). ما يهمنا في الأمر هو أن جدري الماء هو مرض مختلف تماماً عن مرض الجدري. فالجدري داء خطر قاتل مشوّه انقرض. وكانت آخر حالاته في 26 تشرين الأوّل عام 1977 في  (مركا)Merca  في الصومال، ويعتبر أول نجاح ساحق للقاحات حيث كان أول داء يتم استئصاله بوساطتها.

ما هو جدري الماء؟

جدري الماء هو عبارة عن داءٍ شديد العدوى ، ينتقل بالتماس المباشر أو بوساطة السعال والعطاس و المفرزات التنفسية. و بعد التعرض بحوالي أسبوعين تبدأ بعض الأعراض بالظهور كالحرارة الخفيفة وسيلان الأنف و السعال ونقص الشهية و الصداع و التعب. تستمر هذه الأعراض 24- 48 ساعة وبعد ذلك تبدأ الاندفاعات الجلدية المعروفة والمميزة للمرض بالظهور. تبدأ الاندفاعات على الصدر و الظهر و الوجه ثم تنتشر إلى كافة أنحاء الجسم ، وهي تتراوح من حيث العدد بين 30 إلى 3000 . وربما حصلت أيضاً في الفم على شكل قرحات صغيرة بيضاء. وربما أصابت العين والأذن أيضاً. تبدأ الاندفاعات على شكل بقع حمراء ثم تمتلئ بالسائل فتسمى الحويصلات ثم تنفقئ الحويصلات وتجف الاندفاعات و تتحول إلى قشور غامقة. ويحصل الشفاء عادة بعد أسبوع من بدء الاندفاعات.

معالجة ونصائح

تتطلّب معالجة جدري الماء زيارةً واحدة على الأقل إلى الطبيب لتأكيد التشخيص ومن ثم بدء المعالجة. والمعالجة تتوجه أساساً إلى تخفيف الأعراض فالداء كما هو معروف داء فيروسي لا تفيد فيه المضادات الحيوية، ولايتوفر لدينا الآن دواء عملي لقتل الفيروس وبالتالي فإن المعالجة تعتمد على إعطاء مضادات الحكة كالبنادريل ومرهم الكالاماين ومضادات الحرارة.ثم الانتظار حتى ينتهي المرض من تلقاء نفسه. وإن من المهم الانتباه إلى منع الطفل من حك الاندفاعات لأن ذلك قد يصيبها بالإنتان مما يؤدي إلى ترك الندبات. وقد يكون من المفيد تقليم أظافر الطفل لمنع الحك الشديد. ومن المفيد أن نعلم أن الاندفاعات عندما تتحوّل إلى قشور داكنة فإن الطفل لا يعود معدياً وبالتالي فبإمكانه العودة إلى المدرسة.

اللقاح

منذ عام 1995 ظهر في الأسواق لقاح جدري الماء. ونحن نعطيه في عياداتنا الآن بعمر 12- 18 شهراً ثم نعيده مرّة أخرى بعمر أربع سنوات (وكل عيادة قد يكون لديها جدول مختلف عن الأخرى من حيث الأعمار)  وهو يمكن أن يعطى في أي عمر.  وحمايته من المرض ممتازة وتصل إلى حوالي 99%. ومنذ ظهور اللقاح فقد نقص كثيراً عدد حالات الداء بشكل ظاهر. وأصبح اللقاح مطلوباً قبل دخول المدرسة في معظم الولايات الأمريكية ومنها ميشيغان. ولاتوجد تأثيرات جانبية تذكر للقاح. ونحن نوصي بإعطائه إلى جميع الأطفال.

حكمة الجدات

إن جدري الماء يعتبر داءً فيروسياً بسيطاً وغير خطر على العموم. فأعراضه التي ذكرناها لا تلبث أن تتلاشى دون مشاكل مزعجة. ولكن لا بد لنا من أن نذكر هنا أن هنالك بعض الحالات التي تتطلب الحذر. ففي حال تعرّض الحوامل له فإن الجنين قد يصاب بحالة شديدة من جدري الماء قد تكون خطرة و تؤدي إلى تشوّهات خلقية ويجب أن تتجنب الحوامل التعرض لأي شخص مريض و بأي شكل من الأشكال وفي حال التعرض فلا بد من مراجعة الطبيب فوراً. وكذلك فإن الإصابة لدى الرضيع (دون السنة من العمر) قد تكون لها مضاعفات خطرة. وكذلك فإن الأشخاص بعد عمر عشر سنوات معرّضون لمشاكل كبيرة في حال إصابتهم بالمرض ومنها ذات الرئة الحماقية و التي قد تكون صعبة العلاج. وهنا تتجلّى حكمة الجدات اللائي كن يفضّلن أن يصاب الطفل بالحماق قبل أن يتجاوز عمراً معيّناً ربما لأنهن قد علمن من خلال التجربة أن الإصابة في عمر متقدّم تترتّب عليها بعض الأخطار وبالتالي فإنهن كن يقمن حفلات جدري الماء التي ذكرناها آنفاً.

حفل من نوع آخر

حفلات جدري الماء اختفت اليوم من التقليد الاجتماعي في أمريكا وانتقلت من المنازل إلى عيادة الطبيب. والحفل الجديد يتجلّى بإعطاء لقاح جدري الماء بعمر سنة والذي يتبعه البكاء المميز للطفل بعد أن تناله وخزة اللقاح وإذا كان هنالك أكثر من طفل يتلقّون اللقاح في نفس الوقت فإن أنغام الاحتفال تعلو وتزيد و يصبح الحفل رسميّاً. فإذا دخلت يوماً إلى عيادة طبيب الأطفال و سمعت طفلاً يبكي في غرفة الفحص فربما كان هنالك طفل يشارك في حفلٍ لجدري الماء، حفل من نوع جديد!