أرجوك…. لا تستأصلْ لوزتـَي طفلي!!
عندما دخلت الأم إلى عيادتي لم تكن لديها أيّة شكاوى أو حديث عن أعراض أو معالجات أو خيارات أو نقاشات. كلّ ما كان لديها هو فكرة واحدة. أرجو يا دكتور أن تحوّلني إلى طبيب الأنف والأذن والحنجرة. فأنا أريد أن يقوم بإجراء عملية استئصال لوزتين لطفلي (وديع)!!
سألت الأم المستعجلة: طفلك عمره الآن خمس سنوات، فهل تذكرين كم مرة حصل لديه التهاب اللوزتين؟
قالت: لا أذكر، كل ما أعلمه هو أنني أريدك أن تقوم بتحويلي إلى طبيب أخصائي بجراحة اللوزتين ليقوم باستئصال لوزتي طفلي!!
قلت: أما هذه فلا !!!
قالت: وماذا تعني؟
قلت: يجب أن تقومي أوّلاً بإعطائي فكرة واضحة عن تاريخ التهاب اللوزتين لدى (وديع) لنقوم بتحليلها ودراستها، فاستئصال اللوزتين في عصرنا هذا يتطلّب بعض المعاير ولا يجرى عشوائياً كما كان يحصل قبل ألفي عام!!
التاريخ
سألتني الأم مندهشة: وهل كانت هنالك عمليات لاستئصال اللوزتين قبل ألفي عام؟
قلت: بالتأكيد! فإن أولى الجراحات التي أجريت لاستئصال اللوزتين حصلت في عام 50 للميلاد وأجراها طبيب اسمه (سلسوس). وفي ذلك الحين كما هو واضح لم تكن هنالك معاير واضحة لاستئصال اللوزتين. كان (سلسوس) يقوم باستئصال نسيج اللوزتين ــ بطريقة بدائية طبعاً ــ لكل من يعتقد أنه مصاب بمشكلة فيهما. وتطوّر الأمر مع مرور السنين إلى أن قام الطبيب (بول إيجينا) بوضع وصف منهجي لجراحة اللوزتين في عام 625 للميلاد. وفي منتصف القرن الثامن عشر أصبحت العملية تجرى بشكل منتظم وكان من مشاهير من يجريها طبيب يدعى (كاك ريمس). وأوّل من ابتكر جهاز استئصال اللوزتين المشابه للجهاز المستخدم حالياً كان الجراح (سينغ) ، ثم طوّر الدكتور (ويليام ماير) في عام 1867 جهازاً جراحياً خاصاً كان يقوم بوساطته باستئصال اللوزتين عن طريق الأنف.
* أنا مستغربة فعلاً من أن جراحة استئصال اللوزتين لها هذا التاريخ الطويل. أنا ظننت أنها جراحة حديثة نسبياً.
ــ على الإطلاق. فهي من أقدم الجراحات.
* ولكن ماهي الفائدة من معرفة التاريخ الطويل لاستئصال اللوزتين.
ــ هنالك في الواقع فائدتان.
* وما هما؟
ــ الأولى هي المعلومات العامة.
* هذه عرفناها.
ــ والثانية هو أنني أحاول أن أشرح لك يا سيّدتي هو أن أوان العشوائية قد ولّى. بمعنى أن استئصال اللوزتين إذا كان يتم بشكل عشوائي منذ ألفي عام، فإن الأمر مختلف تماماً اليوم. لقد تعلّم الأطباء أن يطوّروا ما يدعونه بالــ (معاير)Criteria التي يجرى على أساسها استئصال اللوزتين. أما أن تطلب الأم ــ على مزاجها ــ من الطبيب أن يقوم باستئصال لوزتي طفلها، فهذا أمر لم يعد له مكان في الطب الحديث. فعيادة الطبيب ليست سوقاً تطلب فيه العائلة لطفلها ما تريد، بل هي مكان للمعالجة والتعلّم والنقاش، يصل بعدها الطبيب مع العائلة إلى أفضل قرار بشأن الطفل.
* معك حق! ربما أكون قد أخطأت بإلحاحي على إجراء الجراحة لطفلي، ولكنني متأكدة من أنك تتفهّم لهفتي على شفائه.
ــ بالتأكيد. ولكن قبل أن نتخذ أي قرار بشأن العلاج الجراحي أو الدوائي يجب أن أقوم بفحص (وديع) ثم علينا أن نطلب سجلاّته من الطبيب الذي كان يعالجه في الماضي لنطّلع على عدد التهابات اللوزتين التي أصيب بها في الماضي، ثم لنا جلسة أخرى نتكلّم خلالها بالتفاصيل.
المعايـِر
بعد حوالي أسبوعين كنت أراجع مع الأم سجلات (وديع) الطبية.
قلت لها: سأكون صريحاً معك تماماً. إن إجراء جراحة لاستئصال اللوزتين سيكون خطأ ً .
سألتني: لماذا؟
ــ ببساطة، لأنه لا يوجد لديه أي استطباب لاستئصال اللوزتين.
* ذكرت لي في زيارتنا الماضية أن هنالك بعض الاستطبابات المحددة لاستئصال اللوزتين لدى الطفل.
ــ هذا صحيح.
* وما هي؟
ــ أوّلاً…. حصول خمس حالات من التهاب اللوزتين لدى الطفل خلال سنة واحدة، أو حصول حالتين من الالتهاب في العام لعامين متواليين. فهل حصل هذا لدى (وديع)؟
* لا أعتقد.
ــ إن سجلاته واضحة تماماً في هذا الشأن. فهنالك حالة من الالتهاب في العام الماضي، وحالة أخرى في هذا العام. وهذا لا يحقق معيار استئصال اللوزتين لديه. وهنالك معيار آخر.
* وما هو؟
ــ أن يحصل لدى الطفل التهاب في اللوزتين يستمر لمدة ثلاثة أشهر. فهل حصل هذا لطفلك؟
* لا!
ــ وهنالك سبب آخر، وهو حصول انسداد في الطرق التنفسية لدى الطفل بسبب ضخامة اللوزتين، ودعيني أخبركِ أنه من خلال فحصي لطفلك، فإنني لم أجد هذه العلامةعلى الإطلاق. وأقول لك أيضاً إن الطبيب قد يـأخذ الجراحة بعين الاعتبار إذا كانت الضخامة تسبب صعوبة في البلع، فهل لاحظت هذا لدى وديع؟
* لا!
ــ وهنالك حالات تؤدي إلى صعوبة في الكلام لدى الطفل بسبب الانسداد الأنفي الناجم عن ضخامة اللوزتين، وهذا أمر لم ألاحظه خلال الفحص.
* نعم.
ــ وهنالك سبب أخير وهو حصول نزف شديد من اللوزتين بسبب هشاشتهما الناجمة عن الالتهاب المزمن. فهل أصيب طفلك بنزف في أية مرة؟
* لا!
ــ بعد كل هذا أريد أن أسألكِ. لماذا إذاً طلبتِ مني أن أحوّل طفلكِ إلى طبيب الأمراض الأذنية ليقوم باستئصال لوزتي طفلك؟
السر
* سأجيبك بصراحة يا دكتور.
ــ وهذا ما أريده.
* أنا من عائلة أصيب الكثير من أفرادها بالتهاب اللوزتين. وقبل أن أهاجر إلى هذه البلاد، تعرّضنا جميعاً أنا وأخواي وأخواتي الثلاث لعمليات استئصال اللوزتين. وعندما أتيت إلى أمريكا، ناقشت الأمر مع أفراد العائلة، وتوصّلنا إلى نتيجة هي أنه طالما أننا في بلد متقدم جداً في الأمراض الجراحية، فلماذا لا نذهب إلى الجراح ليقوم باستئصال لوزتي وديع وننتهي من الأمر؟
ــ كل ما أريدك أن تعلميه أن كون أفراد العائلة قد خاضوا تجربة الجراحة لاستئصال اللوزتين فإن هذا لا يعني أن الطفل يجب أن يتعرّض لها أيضاً. وثانياً… طفلك ليست لديه معاير استئصال اللوزتين. والأعراض التي يعاني منها بين الآونة والآخرى كالسعال وسيلان الأنف إنما هي ناجمة عن التحسس، وأعتقد أنه سيستفيد من بعض الأدوية التي سأعطيها له اليوم. وثالثاً ….. يجب أن تعلمي ياسيدتي أن جراحة استئصال اللوزتين لها بعض المضاعفات.
* وما هي؟
ــ أوّلاً … للوزتين وظيفة مناعية تحمي الجسم، واستئصالهما سيحرم الطفل من هذه الميزة.
* معك حق… فأختي أصبحت الالتهابات تتكرر لديها بعد استئصال اللوزتين.
ــ وثانياً …. إن الذي يتعرّض لهذا النوع من الجراحة قد يصاب بالنزف.
* صحيح…! فأخي أصيب بنزف شديد بعد الجراحة!!
ــ وثالثاً… هنالك حالات يصاب فيها المريض بأنتان في موقع الجرح بعد العملية.
* هذا حصل لي أنا بعد الجراحة.
ــ بعد هذا كلّه لا أستطيع أن أفهم لماذا تريدين لطفلك أن يتعرّض لجراحة ليست لها ضرورة، وليس لها استطباب.
* ربما كان الأمر نوعاً من سوء الفهم للأمر، لأن أحداً لم يشرح لي في الماضي موضوع استئصال اللوزتين بهذا التفصيل. ومع ذلك يا دكتور لي طلب أخير!
طلب أخير
ــ تفضّلي!!
* أريد منك أن تحوّلني إلى طبيب أخصائي بالأمراض الأذنية!
ــ أنا لا أصدق أن هذه الرغبة لا تزال لديكِ بعد كل هذا النقاش الطويل.
* لا تسئ فهمي يا دكتور. أنا أريد أن أذهب إلى طبيب الأمراض الأذنية لأقول له شيئاً مختلفاً.
ــ وما هو؟
* سأذهب إلى الطبيب وأستجمع قواي وأقول له بأعلى صوتي: أرجوك!!! لا تستأصل لوزتي طفلي!!