الصَّرَع …. أوهام و حقائق

الصَّرَع  …. أوهام و حقائق


 


 


” عند الاستحواذ عليه من قِبَـل الأرواح الشريرة تتحرّك


عيناه إلى الجانبين، تتجعّد شفتاه، يسيل اللعاب من فمه ، وترتجف


ساقاه وجذعه كالشاة المذبوحة !”


 


نص طبي بابلي من عام 650 قبل الميلاد



 


 


 


من المعروف عموماً أن الإنسان عدو ما يجهل . و بالتالي فإن الكثير من الأوهام تدور حول بعض الأمراض المنتشرة بين الأطفال نظراً لقلة المعرفة بحقائقها . و لا أبالغ إذا قلت إن الصرع من أكثر الأمراض التي تدور حولها الأوهام و الخرافات منذ قديم الزمان . و ربما كان إيضاح الحقائق أفضل طريقة للتخلص من هذه المعتقدات الخاطئة.


 


بادئ ذي بدء ….  أحب أن أذكر أن هنالك فرقاً ما بين الصرع و الاختلاج . فالاختلاج هو تلك الحركات التشنجية اللاإرادية التي تحدث في  أجزاء الجسم  بعضها أو جميعها، و لها أشكال متعددة و أسباب مختلفة  أيضاً. فالمصاب بالداء السكري قد تعتريه الاختلاجات إذا حصل لديه نقص شديد في سكر الدم. و ربما حدثت الاختلاجات بعد رضوض الرأس و لأسباب عديدة أخرى . أما الصرع فهو ذلك المرض الذي تحدث فيه اختلاجات متكررة لأسباب غير واضحة عبر فترات مختلفة.


 


وإذا أردنا أن نركّز على أكثر المعتقدات الخاطئة شيوعاً بشأن الصرع والاختلاج فيمكن أن نتحدث عن النقاط التالية:


 


 * يعتقد بعض الناس أن الصرع هو عبارة عن مرض عاطفي أو عقلي. و الواقع ليس كذلك . إن الصرع بكل بساطة هو عبارة عن  (مشكلة طبية) فقط لا غير. فكما أن الربو هو مشكلة طبية و الداء السكري هو مشكلة طبية . فكذلك الصرع. و هو مرض قابل للعلاج و يمكن أن نسيطر عليه ببعض الأدوية الملائمة التي يختارها الطبيب.


 


* و يعتقد آخرون أن الصرع يعني بالضرورة وجود آفة تكتنف الدماغ. و حقيقة الأمر أننا لا نجد آفة محددة في الدماغ إلا في 30% من حالات الاختلاجات . و بالتالي فإن نسبة ال 70% المتبقية لا تكتشف فيها أية آفة دماغية .


 


* و من الاعتقادات الخاطئة في هذا المجال أن الأهل المصابين بالصرع سينجبون ــ بالضرورة ــ  أطفالاً مصابين.  و الحقيقة هي أن 6% فقط من أطفال المصابين بالصرع يعانون من  المرض .علماً بأن قدرة النساء المصابات على نقل المرض لأطفالهن هي أعلى من تلك الموجودة عند الرجال المصابين. فإذن في حال وجود عائلة أصيب أحد طرفيها – الأب أو الأم – بالصرع فإن احتمال كون الأطفال معافـَين  من المرض هي 94% . و هذه نسبة تدعو حقاً إلى التفاؤل.


 


* و يظن بعض الناس أن الصرع يؤدي إلى الموت. و الواقع ليس كذلك! و لكن نذكر هنا ما يسمى بالحالة الصرعية. و هي حالة تحصل فيها اختلاجات مطولة متكررة . هذه الحالة تحصل فيها الوفيات في حوالي 5% من الحالات . و لكن يجب أن نذكر هنا أن أغلب حوادث الحالة الصرعية ناجمة عن عدم إعطاء الجرعات المناسبة من الدواء للطفل. و بالتالي يمكن تجنبها في حال المثابرة على إعطاء الدواء بدقة و الالتزام بتوصيات الطبيب. أي أن بإمكان الأهل خفض حالات الوفيات الناجمة عن هذا المرض.


 


* و كثيراً ما يسألنا الأهل فيما إذا كان من المناسب إعطاء التنفس الاصطناعي للطفل أثناء حصول هجمة الصرع المسماة بالاختلاج. و الواقع هو أن هذه الأمر  لا يجوز أن يحصل. فالمشكلة في حالة الاختلاجات الصرعية هي أن التشنجات العضلية الشديدة تمنع الدخول و الخروج الطبيعيين للهواء إلى الرئتين. وبالتالي فمن غير المفيد تقديم التنفس الاصطناعي أو حتى الأوكسجين خلال الهجمة . كما أن آخرين يعتقدون أن وضع قطعة قماش أو مطاط أو غيرها في فم الطفل أثناء الاختلاج هو أمر مفيد ، و الحقيقة هي غير ذلك . فإن الأمر قد يؤدي إلى تكسر أسنان الطفل المصاب ثم استنشاقها إلى الرئتين مما قد يؤدي إلى الاختناق. إن أفضل طريقة يجب اتباعها أثناء الاختلاج هي إبعاد الأشياء القاسية المؤذية عن الطفل ( كالكراسي و الطاولات و قطع الأثاث القاسية ) و و ضع الطفل على جنبه لمنع الاختناق مع تجنب محاولات ربط أو تحديد حركة الطفل ، و من ثم انتظار انتهاء الاختلاج لتهدئة الطفل و إعطائه الشعور بالدفء و الأمان.


 


* و يوجد لدى بعض الناس اعتقاد خاطئ آخر، و هو أن من المناسب إعطاء أدوية الاختلاج للطفل حين بدء الهجمة. و نقول لا …. ذلك أن نوبة الاختلاج تستمر عادة دقيقتين إلى خمس دقائق. بينما قد تحتاج بعض الأدوية ساعة أو أكثر ليبدأ عملها و بالتالي فلا يمكن أن تكون مفيدة في تخفيف الاختلاج أو منعه. فيجب الامتناع عن ذلك.


 


* و يتساءل بعض الأهل … هل من الضروري الاتصال بالإسعاف حين بدء الاختلاج؟ و الإجابة عن هذا السؤال هي بالنفي. ذلك أن الأهل ــ وقد  اعتادوا على فهم طبيعة الاختلاجات ــ قادرون بمفردهم على التعامل مع الاختلاج الذي سينتهي غالباً قبل وصول سيارة الإسعاف إلى المنزل. نعم ….  هنالك حالات تستدعي الاتصال بالإسعاف..  نذكر منها الاختلاج الذي يحصل لأول مرة و الاختلاج الذي يستمر لأكثر من عشر دقائق وذلك  الذي يحصل لدى مرضى السكري و أيضاً الذي يحصل بعد صدمة قوية على الرأس. أما في الطفل المصاب بالصرع  و الذي ألمّ الأهل بطبيعة مرضه ، فإن الاتصال بالإسعاف هو أمر غير ضروري.


 


* و يظن بعض الأهل أن الاختلاجات التي تحصل لدى الطفل تسبب له ألماً شديداً. إن هذا الاعتقاد غير صحيح. و ربما كان السبب فيه هو الصراخ الذي يحصل لدى بعض الأطفال أثناء حصول النوبة. و الواقع أن السبب فيه هو خروج الهواء باندفاع شديد من الرئتين خلال الحبال الصوتية . و هذا ناجم عن التشنج الشديد الذي يحصل في العضلات. إن الطفل لا يصاب بالألم أثناء الاختلاج. و لنذكر أن الطفل أثناء الاختلاجات الصرعية يكون فاقداً للوعي أصلاً و عندما يعود لوعيه فإنه لا يذكر ما حصل أثناء الاختلاج ، و بالتالي فإن موضوع الألم ليس وارداً . و لا يعدو الأمر التعب الشديد بعد الاختلاج و هو ناجم عن الجهد الكبير الذي يحصل بسبب التشنج في العضلات، و هذا هو السبب في أن الطفل كثيراً ما يخلد للنوم إبّان النوبة.


 


* و يطرح بعض ذوي المصابين بالصرع سؤالاً هاماً ….  ” هل يجب أن أمنع طفلي المصاب بالصرع من مزاولة الرياضات المختلفة ؟” و نقول هنا : إن الرياضة هي من النشاطات الهامة لأي إنسان للمحافظة على صحته و صيانتها . و ليس المصابون بالصرع استثناءً لهذه القاعدة الذهبية . و لكننا نقول إن هنالك بعض الرياضات لا تناسب المصابين بالصرع نذكر منها السباحة على سبيل المثال و ذلك لأن حصول الاختلاج أثناء ممارسة الطفل لهذه الرياضة قد يشكل خطراً على حياته. و كذلك ممارسة الرياضات العنيفة كالمصارعة و كرة القدم الأمريكية . أما الرياضات الأخرى فلا بأس بها بل إننا ننصح الطفل بممارستها ، فإضافةً إلى فوائدها للصحة الجسدية فإن لها تأثيراً نفسياً هاماً لإشعار الطفل بأنه طفل طبيعي يمارس النشاطات الحيوية المختلفة شأنه في ذلك شأن أي طفل آخر.


 


* و قد يعمد بعض الأهل إلى إعطاء طفلهم المصاب بالصرع ما يعتقدون ــ خطأ ً ــ  أنه اهتمام خاص و ذلك بتجنب تنبيهه إلى أخطائه أو إرشاده إلى الصواب بحجة أن إغضابه قد يؤدي إلى حدوث حالة من الاختلاج لديه. ويجب أن ينتبه الأهل إلى أن هذا سلوك خاطئ تماماً. فأولاً إن الغضب لا يؤدي إلى الاختلاجات، و ثانياً إن الهدف التربوي في الأطفال المصابين بأي مرض  هو أن نعامل الطفل معاملة الطفل ا لطبيعي ولا نخصه بمعاملة متميّزة . إن هذا السلوك الخاطئ من شأنه أن يؤدي إلى سوء تربية الطفل مما يؤدي إلى إيذائه سلوكياً في المستقبل. إن عليك أن تعامل طفلك المصاب بالصرع معاملتك لأي طفل آخر من أطفالك ويجب أن تعالـَج حالة الصرع كأية حالة طبية.


 


* و كثيراً ما يقوم بعض المعلمين و المسؤولين التربويين بالاتصال بالأهل كي يعيدوا طفلهم إلى المنزل في حال إصابته بنوبة صرعية في المدرسة . و نقول إن هذا الأمر لا ينبغي أن يحدث. فالهدف كما قلنا آنفاً هو أن نقوم بتربية الطفل تربية عادية طبيعية كأي طفل آخر ، كما يجب أن نحافظ على حضوره المدرسة و تحصيله العلمي . و إن إعادة الطفل إلى المنزل بعد كل نوبة لا يخدم هذا الهدف.  إن نوبة الصرع تستمر وسطياً ما بين دقيقتين إلى خمس دقائق . و بالتالي فإنها ستنتهي على الأغلب قبل أن يصل الأهل إلى المدرسة. و من واجب الأهل في هذه الحالات أن يشرحوا للمعلمين في المدرسة عن طبيعة مرض طفلهم و حصول الاختلاجات لديه و ربما كان من المفيد في هذه  الحالات حصول اتصال و نقاش بين معلم الطفل و طبيبه بشأن الحالة مما يدعو إلى حصول الاطمئنان لدى المعلمين . و بالتالي فإننا بهذا التواصل بين الأهل و الطبيب و المعلم نحافظ على المستقبل الدراسي للطفل.


 


 


 


إن الصرع ــ كما ذكرنا في مقدمة هذا المقال ــ  من الأمراض التي يدور حولها الكثير من سوء  الفهم و المعتقدات الخاطئة . و أرجو أن يكون هذا المقال قد أوضح بعضاً من هذه المفاهيم و صحح بعضاً من هذه الأخطاء.


 


 


 

Close Menu