القهوة بين الحقيقة والأسطورة

القهوة بين الحقيقة والأسطورة


 


هنالك سؤال يأتيني من الكثير من الناس… (ماذا نفعل بشأن الأخبار العلمية والطبية تحديداً؟).. ويتابع السائلون…. عندما نشاهد التلفاز أو نقرأ الصحف والمجلاّت نشعر بالحيرة … فمرة يقول لنا البحث العلمي إن نوعاً معيّناً ممن الخضار هو مفيد… ثم يستنتج بحث آخر أنه ضار…. ثم يقول بحث ثالث إن التعرّض للشمس ذو فائدة … ويعارضه بحث آخر بأنه يسبب سرطان الجلد. هذا السؤال محق جداً…. ولا أجد جواباً أجيب به السائلين سوى أن الأخبار (الخام) التي نراها في وسائل الإعلام لا تصلح للتبنّي مباشرة من قبل الناس. لا بد ــ قبل ذلك ــ من أن تتبنّاها هيئة علمية كبرى مثل مؤسسة الوقاية والتحكم بالأمراض في أمريكا أو الجمعية الطبية الأمريكية أو الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال .. إلخ . والسبب أن الأبحاث قد تكون لها قصة ما.. قد تكون مرتبطة بشركة ما.. أي أنها غير حيادية وبالتالي تكون نتائجها تجارية وغير علمية. ومن القصص الشهيرة في هذا المجال الدراسة الكبرى التي أجريت بشأن (نخالة الشوفان) في أمريكا في نهاية الثمانينات والتي ادّعت أن هذه المادة الغذائية تنقص الكولسترول لدى الإنسان،وأدّى ذلك إلى زيادة هائلة في استخدامها من قبل الكبار والصغار وخصوصاً في أشكال طعام (السيريال) الذي يؤكل صباحاً مع الحليب. وتبيّن لاحقاً أن شركة غذائية كبرى كانت تقف وراء ذلك البحث وحقيقة الأمر أن هذه المادة ليس لها ذلك التأثير السحري الذي ادّعته نتائج الدراسة.


 


القهوة


هذا الاستطراد قادني إليه الحديث عن القهوة… يسألني عنها الكثير من الناس وحُقّ لهم ذلك.. فهذه المادة السحرية حظيت بنصيب هائل جداً من الأبحاث المتناقضة فعلاً.. بحث يقول إنها تؤدّي إلى أمراض القلب وارتفاع ضغط الدم..و آخر يقول إنها تسبب زيادة الوزن .. وثالث يقول إنها تقوّي القلب وتساعد في حمية إنقاص الوزن. أمر كهذا لا يحيّر المريض فقط ولكن يحيّر الأطباء أيضاً…. فما هي حقيقة القهوة؟


 


نصف مليار كوب!!!


تقول الإحصاءات إن الأمريكيين يشربون نصف مليار كوب يومياً من القهوة!! وهذا الرقم هو أكبر مما يستهلكه أي شعب في العالم كلّه. وهي تعتبر المشروب القومي في أمريكا منذ ما يدعى (حفلة شاي بوسطن) أو ( Boston Tea Party) وهي باختصار عبار عن مظاهرة تعتبر من علامات التاريخ الأميريكي.. حصلت في 16 كانون الأوّل عام 1773. حيث تظاهرت مجموعة تدعو نفسها (أبناء الحرية) في مجينة بوسطن في مستعمرة (ماساتشوستس) البريطانية ضد سياسة الضرائب البريطانية وشركة شرق الهند التي تحكمت باستيراد الشاي إلى المستعمرات. حيث قام المتظاهرون بإلقاء حمولة ثلاث سفن من الشاي في ميناء بوسطن. ومنذ ذلك الحيث ــ كما ذكرنا ــ أصبحت القهوة هي المشروب الوطني لأمريكا!!


 


لمحات تاريخية


وتكملة للمحة التاريخية نذكر شرحاً بسيطاً… ربما شاهدت فنجان القهوة كرمز للبرنامج الكومبيوتري الشهير (جافا) والحقيقة أن الاسم جاء نتيجة لزراعة القهوة في (جاوه) حيث تمكن الهولنديون من نقل شتلات النبات إلى تلك المناطق ومن هنا راح البعض يسمّي القهوة (جافا) واستغّلت شركة البرامج المنتجة هذا (الجناس) اللفظي… فأصبحت تستخدم فنجان القهوة رمزاً لبرنامجها. والنقطة التاريخية الأخرى الجديرة بالذكر هو كيفية اكتشاف القهوة الخالية من (الكافين) حيث تم إرسال حمولة سفينة من حبوب القهوة إلى ألمانيا في عام 1903 وانغمست بأكملها بمياء البحر… وعندما تم استخدامها تبيّن أنها فقدت تأثيرها (الكافيئيني) فجعل العلماء يبحثون عن طريقة لإنتاج قهوة خالية من الكافين وهذا ما حصل.


 


اتهامات


بعد هذا الاستطراد التاريخي الذي لا بد منه نعود لموضوعنا الأصلي.. فخلال السنوات الطويلة اتهمت القهوة بقائمة طويلة من الاتهامات.. فهيئة تقول إنها تسبب أمراض القلب… وبحث يستنتج أنها تؤدّي إلى القرحة الهضمية … وطبيب ينشر بحثاً يقول إنها تسبب سرطان البنكرياس.. وحتى التشوّهات الولادية. وحقيقة الأمر أن أيّا من هذه الاتهامات لم يتم إثباته بطريقة علمية على الإطلاق… ونعود هنا ونذكّر من جديد أن صدور بحث ما دون تبنّيه من قبل هيئة كبرى معتمدة لا يجعله بحثاً حقيقياً تبنى عليه ممارسات ونتائج. ومن الأمثلة ذلك أن القهوة اتّهمت برفع الكولسترول في الجسم.. فهل هذا صحيح؟


 


القهوة والكولسترول


الحقيقة أن العلماء تابعوا الدراسة المذكورة وتبيّن لهم أن القهوة ــ سواء بشكلها الحاوي أو غير الحاوي ــ على الكافين قد ترفع الكولسترول إذا تم تناول المادّة الطحينية للقهوة أي ما يدعى (الطحل) أو (المادة الراسبة) في أسفل الفنجان كتلك التي توجد في قهوة  الإسبرسو أو القهوة التركية .. أما في حال عدم استهلاك هذه المادة وشرب مستحضر القهوة النقي فلا يحصل ارتفاع في الكولسترول.


 


القهوة والإجهاض


دراسة أخرى ذكرت أن استهلاك القهوة من قبل المرأة الحامل يؤدّي إلى  الإسقاط أو الإجهاض… وقد قام المعهد القومي لصحة الطفل والتطور الإنساني في أمريكا بمتابعة هذا الأمر.. ولم تجد دراساته التي أجراها أية علاقة بين القهوة والإجهاض.


القهوة وهشاشة العظام


لقّد بيّنت إحدى الدراسات أن النساء المسنّات اللاتي يستهلكن فنجانين من  القهوة كل يوم (على مدى حياتهن) لديهن احتمال أعلى لهشاشة العظام (أي نقص الكلس فيها) ولكن هذا يحصل في حال عدم تناول الحليب. أي أن تناول الحليب بشكل منتظم يحمي من هذا الأمر.


 


قهوة بلا كافين


بعض الناس يصابون بالتهيّج والرجفان والأرق بسبب تناول القهوة… لهؤلاء الناس قام العلماء بإنتاج القهوة الخالية من الكافين والتي تم اكتشافها بمحض الصدفة كما ذكرنا.. ثم أصبح إنتاجها يتم بشكل علمي ومنتظم وبكميات هائلة تكفي المستهلكين. وبالتالي فكل من يعاني من الأعراض السابقة عند تناول القهوة لديه هذا الخيار الذي لا يحرمه من مشروبه المفضل.


 


القهوة وأمراض القلب


إن الأبحاث العلمية لم تبيّن علاقة بين ارتفاع الضغط وأمراض القلب من جهة والقهوة من جهة أخرى. ولكن بالنسبة للأشخاص الذين يصابون بالخفقان، يفضل أن يخفضوا استهلاكهم من القهوة إلى كمية لا يظهر عندها هذا العرض لديهم… وربما كان من المفيد أن يتناولوا القهوة الخالية من الكافين. أما عن  اتهام القهوة بكونها تسبب أمراض الشرايين التاجية فثبت خطؤه.


 


ما هو الاعتدال؟


كثيراً ما نسمع كلمة (الاعتدال) في تناول الأطعمة وغيرها.. فما هي الكمية التي يعتبرها العلماء معتدلة عندما يتعلّق الأمر بالقهوة؟ إن أغلب العلماء يعتبرون 4 فناجين من القهوة يومياً هي كمية معتدلة بالنسبة للأشخاص الذي لا يعانون مشاكل مثل تسرّع  القلب وغيره. أما أولئك الذين يصابون بالأعراض التي ذكرناها مثل الأرق والخفقان والرجفان … فعليهم مناقشة ذلك مع طبيبهم. ولوضع الأمر في إطاره الصحيح نقول (مع الكثير جداً من التبسيط) إن فنجان القهوة الأمريكي الحاوي على 200 مليليتر من القهوة يتعادل مع فنجان القهوة التركي (أو العربي) الحاوي على 60 مليليتر من القهوة حيث يحوي كل منهما حوالي 100 ملغرام من الكافين. وإن علبة الكولا المعدنية الحاوية على 360 مليليتر من الكولا فيها 40 ملغرام من الكافين. وكما ذكرنا فقط  اتبعنا الكثير من التبسط بين أشكال القهوة الأمريكية المختلفة (قوية، متوسطة، خفيفة إلخ).


 


من فوائد القهوة


كما أن الدراسات المتعلّقة بأضرار القهوة ليست مثبتة تماماً أو متبنّاة من قبل الهيئات الصحية الكبرى، كذلك فإن القاعدة نفسها تنطبق على الأبحاث التي أثبتت للقهوة فوائد. ومنها أنها تقلل من حصول سرطان البروستات وسرطان الكبد وداء ألزهايمر والعته وداء باركنسون وأمراض القلب والداء السكري من النموذج2 وتشمع الكبد والنقرس. والقهوة تحوي مضادات الأكسدة التي تقي من أمراض القلب والسرطانات. ومن المعروف استخدام الكافين (الموجود في القهوة) في الأدوية المضادة للصداع.


 


من أضرار القهوة


إن الإفراط في استخدام القهوة يزيد احتمال حصول فقر الدم لأنه ينقص امتصاص الحديد في المعدة. كما أن الأشخاص الذين يعانون من القلس المعدي المريئي (عودة الحمض المعدي إلى المريء) قد تزداد أعراضهم سوءاً عند استخدام القهوة.


الخلاصة


إن خلاصة الكلام في موضوع القهوة أنه لا توجد مشاكل صحية حقيقية تجعل من المفيد الإقلاع عنها… إنها مفيدة لمعظم الناس لحفظ مستوى نشاطهم ويقظتهم للعمل أثناء النهار. إن المشاكل الصحية التي ربطتها بعض الأبحاث بالقهوة إنما تظهر في الاستهلاك العالي لهذه المادة والذي يتجاوز مستوى الاعتدال الذي تحدثنا عنه. وعلينا أن نتذكر حقيقة بسيطة هي أن هنالك الكثير من الأمور التي تؤثر على صحة الإنسان مثل كمية الشحوم والسكاكر التي يتناولها ومقدار نشاطه الفيزيائي اليومي.. إن هنالك الكثير من العادات السيئة التي يجب أن يقلع عنه الإنسان قبل أن يصل إلى قرار ترك القهوة… وإلى أولئك الذين يشيرون إلى القهوة بانتظام كمصدر للمشاكل الصحية.. نقول لهم : دعوا القهوة في حالها … وابحثوا عن أسباب أخرى للمشاكل الصحية للإنسان. 


 

Close Menu