الكوليرا …. حديث عن المرض الذي قتل (تشايكوفسكي)!

 


 


 


 


الكوليرا …. حديث عن المرض الذي قتل (تشايكوفسكي)!


 


إذا كان اسم هذا المرض يبدو وكأنه مغطّى بسحابة من غبار التاريخ، فهو فعلاً كذلك. فلا يمكن أن نذكر القرون الماضية إلاّ ويأتي اسم هذا المرض في صفحاتها الداكنة وكثيراً ما يطل وجهه البشع من الأبواب الخلفية للحروب. كنا كأطبّاء نعتقد أن هذا المرض قد انتهى عملياً من العالم، إلى أن جاءت بعض التقارير في السابع من شهر نوفمبر الجاري من الكونغو من قبل منظمة أطباء بلا حدود لتقول بوجود 45 حالة في الكونغو من هذا المرض. وبات العالم الطبي يحبس أنفاسه فعلاً… هل سيتحوّل هذا الأمر إلى (وباء) يشابه تلك الأوبئة التي يذكرها التاريخ بألم شديد؟ وبدأ الناس يطرحون سؤالاً قديماً جديداً…. ما هو مرض الكوليرا؟


 


حديث التاريخ


نشأ هذا المرض في شبه القارة الهندية. ويعتقد العلماء أن نهر (الغانج) قد لعب دور المستودع الذي نمت فيه (ضمّات الهيضة) أي الجراثيم المسببة للكوليرا. ثم انتشر المرض من خلال طرق التجارة الأرضية والبحرية إلى روسيا، ومن ثم إلى أوربة الغربية ومنها إلى أمريكا الشمالية.  وبطبيعة الحال فلا يعتبر هذا المرض مشكلة صحية اليوم في العالم الغربي نتيجة للكلورة والفلترة التي تجرى على الماء في هذه الدول. ولكنه لا يزال يشكل مشكلة في الدول النامية تظهر بين الفترة والأخرى على شكل أوبئة.


الأوبئة


يذكر التاريخ أن أوّل أوبئة الكوليرا حصل بين عامي 1816 و1826 وذلك في بلاد (البنغال) ثم انتشر إلى الهند ثم إلى الصين وبحر قزوين ثم بدأ بالزوال. وجاء نصيب أوربة من الأوبئة المسببة عن هذا الداء في  عام 1829 وامتد على مدار 22 عاماً وشمل لندن وباريس. وقد بلغ عدد الضحايا في فرنسا وحدها 100 ألفاً. وقد امتد هذا الوباء إلى  روسيا وكيبيك وأونتاريو ثم نيويورك ووصل في نهاية المطاف إلى الساحل الغربي لأمريكا. وماكادت تداعيات الوباء السابق تنتهي في العالم حتى تعرّضت أوربة لوباء جديد في عام 1849 بدأ من باريس فكان أسوأ الأوبئة في تاريخها من نوعه ثم انتقل إلى لندن. ثم انتقل إلى أمريكا وحصد الكثير من الأرواح. ولمن تسلم مدن  نهر الميسيسيبي مثل سانت لويس ونيوأورلينز.  ثم امتد إلى كاليفورنيا وأوريغون ويوتا. ثم حصل الوباء الثالث في روسيا في منتصف القرن التاسع عشر مسببا مليون حالة وفاة وانتشر  إلى لندن. وفي الفترة نفسها حصل وباء في مدينة شيكاغو قتل 5% من سكانها. وبعيد ذلك حصل الوباء الرابع في أوربة وأفريقيا. ثم وباء آخر في أمريكا الشمالية. ثم الوباء الخامس في نهاية القرن التاسع عشر (عام 1881) وكان مركزه مدينة هامبورغ في ألمانيا. وكان هذا آخر الأوبئة  الخطرة التي أصابت أوربة. ثم حصل الوباء السادس عام 1899 والذي امتد حوالي ربع قرن وأصاب روسية والإمبراطورية العثمانية بما فيها الدول العربية التي كانت تنضوي تحت لوائها. وفي العصور الحديثة حصل الوباء السابع والذي امتد منذ عام 1961 حتى بداية السبعينات وقد شمل إندونيسيا وبنغلادش والهند والاتحاد السوفيتي وشمال أفريقيا ثم وصل إلى إيطالية. وحصل وباء آخر امتد بين عامي 1991 و1994 في أمريكا الجنوبية بدأ في البيرو وأدى إلى حصول أكثر من مليون حالة مرض وحوالي 10 آلاف وفاة. وفي شهر نوفمبر الحالي أتت التقارير من الكونغو كما ذكرنا تتحدث عن وجود 45 إصابة تم علاجها بين السابع والتاسع من الشهر في تلك البلاد.


 


ما هي الكوليرا؟


الكوليرا مرض جرثومي يسببه نوع من الجراثيم تسمى (ضمّات الهيضة) والسبب في التسمية هو كون الجراثيم تشبه (الضمّة) في اللغة العربية. ويتم انتقال المرض من خلال الجهاز الهضمي، أي بسبب تناول الماء الملوّث بهذا النوع من الجراثيم. وأهم مستودعات المرض هو المستنقعات والأنهار والأجسام المائية عموماً. وتنتج هذه الجراثيم ما يدعى (توكسين) الكوليرا وهو عبارة عن مادة سامة تؤذي مخاطية الأمعاء الدقيقة مما يؤدّي إلى الإسهال الشديد المميّز لهذا المرض. وعلينا أن نذكر أن الكوليرا في حالاتها الشديدة تعتبر من أسرع الأمراض تسببا في الموت. حيث أن التجفاف الناجم عن الإسهال يؤدّي إلى هبوط حاد في الضغط الدموي خلال ساعة واحدة من بدء الأعراض. وربما حصلت الوفاة خلال ثلاث ساعات من بدء المرض إذا لم تبدأ المعالجة الفعالة. وهذا من الأرقام القياسية في الطب طبعاً. وفي الحالات المتوسطة (الأقل سرعة) فإن  الوفاة قد تحصل خلال 18 ساعة. وإضافة إلى ذلك تشمل الأعراض الآلام البطنية الشديدة وجفاف الجلد وتسرع النبض والتعب الشديد والغثيان والإقياء وآلام البطن.


 


المعالجة


إن أهم جانب من جوانب المعالجة هو  (الإماهة) أي إعطاء السوائل الحاوية على الشوارد والأملاح وبالتالي فعند وجود أي شك بالإصابة ولا سيما في حال حصول وباء في مكان ما فإن الخطوة الأولى هي إعطاء كمية كافية من السائل الحاوي على الشوارد ريثما يتم تقييم المريض من قبل طبيب خبير و يجب أن يتم هذا بسرعة كبيرة من خلال نقل المريض إلى المستشفى. وكثيراً ما يكون من الضروري إعطاء السوائل الوريدية في الحالات الشديدة. وإضافة إلى ذلك تعطى المضادات الحيوية وخصوصاً (التتراسيكلين) لقتل الجراثيم المسببة. وهنالك بعض المضادات الحيوية الأخرى التي يتم استخدامها في حول كون الجراثيم المسببة مقاومة للتتراسيكلين. ويتم تحديد السلالات الجرثومية من خلال الزرع. 


 


الوقاية


إن أهم عناصر الوقاية هي النظافة واتباع الأساليب البسيطة للوقاية. وفي العالم المتقدم لم تعد الكوليرا اليوم عنصراً مهدداً للصحة العامة نتيجة لتقدم أساليب تطهير ومعالجة  المياه كما ذكرنا سابقاً. وفي الولايات المتحدة على سبيل المثال لم تعد تحصل أوبئة أو انتشارات كبرى للمرض منذ عام 1911 ولكن ذكرت حالات من الكوليرا في عام 2005 نتيجة لإعصار كاترينا  نتيجة لتلويث مياه الإعصار للكثير من مصادر ومخازن المياه في المناطق المنكوبة. إن معالجة المياه والصرف الصحي هي الأساس في الوقاية في كل أنحاء العالم. ونذكر أيضاً أن هنالك لقاحاً للكوليرا متوفراً في بعض البلدان (غير مستخدم في الولايات المتحدة الأمريكية) ويعطى اللقاح الحديث عن طريق الفم ويعطي نتائج أكثر من اللقاح القديم الذي كان يعطى حقناً في الجلد.


 


تشايكوفسكي


لعلها من غرائب المصادفات أن تمر ذكرى وفاة الموسيقار الكبير تشايكوفسكي في هذه الأيّام التي يتم فيها الإعلان عن حصول إصابات جديدة للكوليرا من قبل منظمة أطباء بلا حدود. فقد توفي تشايكوفسكي في السادس من نوفمبر عام 1893 بعد حياة استمرت 53 عاماً. وحصلت وفاته بعد تسعة أيام من العرض الأوّل لسمفونيته السادسة. حيث تعزى وفاته إلى تناوله جرعات من ماء الصنبورغير المعقمة في وقت كان فيه وباء الكوليرا ينشر الموت في مدينة (سانت بطرسبرغ) التي توفي فيها. وهذا حسب رواية (مودست) أخيه وكاتب قصة حياته وإن كانت بعض الروايات تقول إن وفاته كانت بسبب الانتحار. وهنالك رواية أخرى تنسق بين القصتين وتقول إنه تناول الماء الملوّث بالكوليرا عن عمد.


ومن الضحايا (المحظوظين)  لهذا المرض (ألكسندر دوماس الأب) وهو كاتب الروايتين الشهيرتين (الفرسان الثلاثة) و(الكونت دي مونتِ كريستو) الذي أصيب بالمرض في باريس عام 1832 وشارف على  الموت ثم كتب له الشفاء والحياة ليسيل قلمه بروايات جديدة. ولم يسلم حتى الملوك والرؤساء من المرض  فقد كان من ضحاياه الرئيس (جيمس بولك) الرئيس الحادي عشر للولايات المتحدة الذي قضى عليه المرض وكان وقتها قد أصبح رئيساً سابقاً. وملك فرنسا (شارل العاشر) وكان قد تنحى عن الحكم وقتها. وكذلك (محمد علي ميرزا) أحد رجالات الدولة الفارسية خلال الحرب الفارسية الإنجليزية وكان يحمل لقب (احتشام الممالك)!


 


وبعد


 


إذا كانت بعض الأمرض تعطينا زيارة جديدة للتاريخ فإن الكوليرا قد تكون على رأس هذه الأمراض. وإذا كانت بعض الأمراض تذكرنا بضعفنا البشري بين الآونة والأخرى، فإن الكوليرا لا شك من هذه الأمراض. وإذا كان العالم يساوي في حقب سابقة بين كلمة (موت) وكلمة (كوليرا) فإننا لا نملك إلاّ أن نقول: سبحان من قهر عباده بالموت!!


 


 

Close Menu