حكاية التوازن الغذائي

 


 حكاية التوازن الغذائي


 


 


 


كنت طالباً في المرحلة الثانوية عندما قرأتُ كتاباً يتحدث عن فائدة الأغذية الطبيعية كالخضار والفواكه وغيرها. وأذكر أن من بين أقسام الكتاب التي تأثرت بها كثيراً قسماً يتحدث عن فاكهة الفريز. أسهب الكاتب في التحدث عن هذه الفاكهة (الأنيقة)…. فوائدها … غناها بالفيتامينات والأملاح المعدنية… وأتبع ذلك بقصة تاريخية ــ مخترعة ربما ــ عن ناسك قارب المائة من عمره وكان يتمتع بكامل صحته، فسأله أتباعه ومريدوه عن سر هذه النضارة والصحة التي قل أن تمتع بها من كان في مثل سنه، فأجابهم الرجل بوقار: لقد كنت آكل في كل يوم كميات وافرة من فاكهة الفريز التي قمت بزراعتها في الأرض المجاورة لصومعتي، وأخذ الناسك تلامذته إلى أرض مجاورة مملوءة بنباتات الفريز التي ملأت رائحتها المتميزة المكان، وهكذا عرف السبب وبطل العجب.


 


بعد أن قرأت ذلك القسم من الكتاب ساءلت نفسي: ما دامت فاكهة الفريز تتمتع بهذه الميزات العجيبة فلماذا لا يقتصر الراتب الغذائي للإنسان عليها؟ بل لماذا لا يحوّلون مزارع القمح الشاسعة في كل بلدان العالم إلى أراضٍ تزرع الفريز وبذلك تحل جميع مشاكل العالم الصحية والغذائية؟ أليس هذا سؤالاً مشروعاً بعد ما عرفناه من أسرار الناسك العجيبة؟


 


وصادف أن كان القسم التالي في الكتاب يتحدث عن الجزر…. وقد خلع عليه الكاتب لقب (ملك الخضار). وبدأ الحديث عن هذا النوع المدهش من الخضار بما يحتويه من كميات وافرة من الفيتامين A ومن الألياف. إن (ملك الخضار المتوّج) يقوي البصر ويساعد في حركات الأمعاء ويزيد الجسم نضارة وحيوية. بصراحة … بعد أن قرأت قسم الجزر غيّرت رأيي بشأن مزارع العالم وأصبحت مقتنعاً بأن علينا أن نحوّلها إلى مزارع جزر بدلاً من الفريز.


 


عندما تابعت قراءة فصول الكتاب ــ وقد كان ممتعاً حقاً ــ رحت أغيّر الألوان التي كانت أحلامي تضفيها على مزارع العالم. فتارةً كنت أزرعها بالتفاح، فتفاحة في اليوم تبقي الطبيب بعيداً. وطوراً كنت أغرس فيها شتلات الموز، فهو فاكهة مغذية جداً وكل من ثمارها تعادل وجبة غذائية كاملة إضافة إلى غناها بالبوتاسيوم وغيره من الأملاح المعدنية الضرورية. إلى آخر ما في قائمة العالم من خضار وفواكه.


 


كان هذا الكتاب أحد العوامل الهامة التي زادت اهتمامي بعلم التغذية الذي رحت أبحث في كتبه. وكان ذلك السؤال الذي كنت أطرحه على نفسي لا يزال يراودني. لماذا لا يختار البشر أكثر الفواكه أو الخضار فائدة ، ثم يملؤون بها مزارعهم ويحلون مشاكلهم الصحية والغذائية؟ ولكن تلك الرحلة التي تبدأ ولا تنتهي جعلتني أكتشف سرّاً خطيراً.. وهو أن الكاتب الذي وضع ذلك الكتاب نسي أن يذكر في مقدمته أو خاتمته  أو أحد فصوله كلمة السر التي تعتبر الكلمة المفتاحية في عالم التغذية. تلك الكلمة هي (التوازن الغذائي)!


 


 


 


 التوازن الغذائي


 


إن هذه المواد الغذائية التي تملأ العالم لم تخلق سدىً بطبيعة الحال. كل منها له دور، ولكن هذا الدور لا يمكن شرحه  إلا بكونها قطعة صغيرة في فسيسفساء الغذاء في العالم. وهذه اللوحة الفسيفسائية ذات الجمال المدهش تتحدد أدوار كل قطعة صغيرة فيها من خلال قانون لا بد من تطبيقه، وهذا القانون هو ما يطلق عليه علماء التغذية التوازن الغذائي. وبطبيعة الحال فليس في المقام متسع للتفصيل في كل منها ولكننا نختصرها بالعناصر الغذائية الأساس الثلاثة وهي الكربوهيدرات (أو النشويات أو مائيات الفحم أو السكريات وكلها أسماء لمسمى واحد) والشحوم (أو الدسم أو الزيوت) والبروتين. وتلحق بها الفيتامينات والأملاح المعدنية والعناصر الزهيدة (وهي ما يحتاج منه الجسم مقادير ضئيلة للمحافظة على الصحة).


 


أمثلة


 


وإذا كانت هنالك بعض المواد الغذائية التي تعتبر مثالاً كلاسيكياً لعناصر الغذاء كالزبدة والزيت التي تشكل المثال الصافي للشحوم، فإن من النادر أن نجد عنصراً غذائياً نقياً في مادة غذائية معيّنة. فاللحم يغلب عليه البروتين ولكنه يحوي كمية لا يستهان بها من الشحوم. والخبز هو المثال الكلاسيكي للكربوهيدرات ولكنه قد يحوي مقداراً ضئيلاً من الشحوم . والخضار والفواكه الحاوية على الكربوهيدرات غنية بالفيتامينات كالفيتامين C.وأشهر المعادن هو الحديد الذي نجده في بعض المواد الغذائية كالعدس والنباتات ذات الأوراق الخضراء، وهو هنا مختلط بالكربوهيدرات ويليه في شهرته الكالسيوم الذي نجده في الحليب الذي يحوي على الكربوهيدرات والشحوم والبروتينات.


 


ومن أمثلة العناصر الزهيدة السلنيوم والكروميوم. كل ما نريد أن نقوله هنا هو أن المواد الغذائية المعروفة تحوي أخلاطاً من العناصر الغذائية الضرورية وبالتالي فقد رأى العلماء أن يعتمدوا في مجال تحديد التوازن الغذائي على (مواد غذائية) والمثال على ذلك الخبز واللحم ، لا على (عناصر) غذائية والمثال عليها (الكربوهيدرات والبروتينات). والتوازن يعني النسبة التي يتناولها الإنسان من كل مادة غذائية ــ أو مجموعة مواد غذائية إن شئت ــ  ليكون غذاؤه صحياً. وقد تطوّر مفهوم التوازن الغذائي حتى وصل إلى ما نعرفه اليوم بــ (هرم الإرشاد الغذائي).


 


 


هرم الإرشاد الطعامي


 


إن أول الخطوط العريضة (الرسمية) للتوازن الغذائي في أمريكا ترجع إلى عام 1890 حيث أصدرتها بعض الهيئات العلمية. وفي عام 1941 صدرت نشرة (المخصصات الغذائية الموصى بها )Recommended Dietary allowance  عن مجلس الأبحاث القومي الأمريكي. وكان من الملاحظ فيها تأثير مرحلة الحرب العالمية الثانية بوطئها على الاقتصاد الذي لم يكن يسمح للفرد بتناول ما يختاره من طعام.


 


 وتطوّرت الأمور عبر مراحل لا مجال لذكرها حتى وصل الأمر إلى صدور (هرم الإرشاد الطعامي)The Food Guide Pyramid   في عام 1992 عن وزارة الزراعة الأمريكية التي تعتبر أحد أهم مصادر التوجيه الغذائي في أمريكا. وكان من أهم أسباب صدوره انتشار السمنة بين الناس. ويعتبر الهرم هو التمثيل (الغرافي) للمعلومات التي توصلت إليها الأبحاث.


 


ولفهم هذا الهرم فإن علينا أن نفترض أن الإنسان إذا كان يحتاج إلى 24 (قيراطاً) أو (مقداراً)serving من الغذاء …. فإن عليه أن يجعل مجموعة الخبز والرز والمعكرونة (أي النشويات عموماً) تشكل معظم مدخوله الغذائي (أي حوالي 10 مقادير) وبالتالي فإن هذه المجموعة الغذائية تشكل (قاعدة) الهرم. ثم تأتي في الطبقة الأعلى (أي الأقل من حيث الكمية) مجموعة الخضار بحوالي 4 مقادير والفواكه بـ 4 مقادير. ثم في الطبقة الأعلى هنالك مجموعة اللحوم والدجاج والبيض والسمك (التي يغلب البروتين على محتواها) بـ 3 مقادير، إضافة إلى مجموعة الحليب والجبن (الحاوية على البروتين والشحم) بـ 3 مقادير. وبالتالي يكون المجموع العام للمقادير 24 مقداراً أو قيراطاً . وعلى قمة الهرم تأتي الشحوم الصافية (كالزيت والسمن والزبدة) ويجب أن يتناول الإنسان منها مقادير قليلة.


 


إن التفصيل في أمر هرم الإرشاد الغذائي يحتاج إلى صفحات كثيرة، ولذلك كان  لا بد من الاختصار، ولكن هذه الكلمات القليلة تعطي المعنى المبدئي للهرم، والذي حاول به منشئوه أن يقدموا للناس طريقة مثلى ــ وإن كانت تقريبية ــ للحصول على غذاء متوازن.


 


مجرّد مقدمة


 


في حقيقة الأمر فقد كان المحرض الرئيس لكتابة هذه المقال هو ما نتعرّض له من أسئلة في عياداتنا من أمور تتعلّق بالسمنة والغذاء، وليس هذا أمراً مستغرباً في عصر يعاني فيه من السمنة حوالي 40% من الناس. لقد كانت النية البدئية هي الحديث ــ في مقالات متتابعة ــ عن حميات إنقاص الوزن بأنواعها المختلفة، ولكن موضوع الحمية لا يتم فهمه بشكل ملائم دون أخذ فكرة عن التوازن الغذائي ابتداءً وخصوصاً من خلال مبادئ (هرم الإرشاد الغذائي)، ومن ثم الانتقال في مقالات مقبلة إلى أنواع الحميات (الريجيم) وما انتشر منها في هذا العصر. وسنحاول في مقالاتنا المقبلة ــ بإذن الله ــ الحديث تباعاً عن بعض أنواع حميات  إنقاص الوزن، مبادئها .. طريقة إجرائها .. والمتوقع منها. إن قضية الغذاء والتوازن الغذائي هي أمر معقد ويحتاج إلى شرح مفصل، وكل ما نطمح له في هذه اللمحات البسيطة هو أن نعطي (فكرة)….  مجرّد فكرة عن هذا الموضوع الهام الذي أصبح يشغل شريحة واسعة من المجتمع في كافة أنحاء العالم.


 


 

Close Menu