داء الوحيدات الإنتاني وقصة(آليس) في بلاد العجائب!!

 


داء الوحيدات الإنتاني  وقصة(آليس) في بلاد  العجائب!!


 


الاسم غريب طبعاً سواءٌ بصيغته العربية (داء الوحيدات الإنتاني) أو بصيغته الإنكليزية (Infectious Mononucleosis) أو بصيغته المختصرة (مونو ) . ولكن الكثير من الناس قد رأوه فعلاً دون أن يعرفوه أو دون أن يحفظوا اسمه. وفي واقع الأمر فإن هذا المرض أكثر شيوعاً مما يظن معظم الناس، ولعلّنا نستغرب إذا علمنا أن 90% من البشر الذين تجاوز عمرهم 35 سنة قد أصيبوا به!! ألا يستحق مرض كهذا أن نعرف عنه بعض المعلومات؟


 


من أين أتى الاسم؟


 


إن الاسم العجيب لهذا المرض له أصل بطبيعة الحال. فكلمة داء الوحيدات ناجمة عن وجود كريات دموية لمفاوية (غير نموذجية) تبدو على شكل كريات ذات نواة وحيدة القوام (أي غير متعددة وغير مفصصة) وكلمة الإنتاني مصدرها أن هذا المرض هو فعلاً مرض إنتاني لكونه مسبباً من قبل فيروس. ونذكر أن هنالك اسماً قديماً للمرض هو (الحمى الغدية) في إشارة إلى ضخامة العقد اللمفاوية  المترافقة بالحمى.


 


مونو


الأمريكيون معروفون بمحبتهم للاختصار، وبالتالي فإن الاسم الشائع لهذا المرض هو (مونو) وهذا الاسم اسهل بكثير من اسمه الكامل الذي يتلعثم بلفظه اللسان. وهذا المرض هو مرض فيروسي. وعندما يصيب هذا الفيروس الأطفال الصغار، فغالباً ما تكون الأعراض أعراضاً بسيطة مشابهة للإنفلونزا. ولكن عندما يحصل المرض في المراهقين والكبار فإن الأعراض تكون أكثر شدة.


 


الأعراض


 


تبدأ أعراض المرض بالتدريج ، وتحصل بعد فترة حضانة طويلة تستمر 30 ــ 50 يوماً.  وهي تشابه في البداية أعراض الإنفلونزا كالحرارة والصداع والتعب العام. وبعد عدة أيام تتضخم العقد اللمفاوية (وهذا العرض هو الأشهر والأكثر ارتباطاً بالمرض من أي عرض آخر، ولكنه لا يحصل في جميع المرضى) . وغالباً ما يكون تضخم العقد اللمفاوية في القسم الخلفي للعنق. ويحصل ألم في البلعوم في معظم المرضى، قد يكون شديداً جداً. وبالنسبة للحرارة ــ وهي عرض هام ــ فإنها عادة لا تتجاوز 104 درجات فهرنهايت، وقد تستمر لمدة 3 أسابيع. وربما حصلت اندفاعات حمراء معممة في الجسم كله عند بعض المرضى، وخصوصاً أولئك  الذي يتم إعطاؤهم دواء الأموكسيسيلين كمعالجة لما قد يظنه الطبيب التهاباً في البلعوم. وهنالك تظاهر هام آخر هو تضخم الطحال لدى المصابين بحيث يحصل إيلام في القسم العلوي الأيسر من البطن. وفي معظم الحالات تحصل إصابة خفيفة جداً في الكبد، ولكن في حالات نادرة تكون إصابة الكبد شديدة وتؤدي إلى اليرقان (اصفرار البشرة وملتحمة العين) .


 


ولكن ما هو السبب؟


 


ينجم المرض عن فيروس يسمى (إبستين ــ بار) وهو سمي على اسم العالمين البريطانيين اللذين اكتشفاه في عام 1964 وإن كان المرض قد عرف قبل ذلك التاريخ بسنوات. وينتمي الفيروس إلى عائلة (العقبول)، ويتم انتقاله عن طريق المفرزات اللعابية (وقد كان يعرف لفترة طويلة بداء القبل). وهو ينتقل عن طريق السعال والعطاس وغير ذلك. قد يبقى الفيروس فعالاً لدى المصاب لمدة أسابيع أو أشهر بعد انتهاء الأعراض، وبالتالي فإن الإنسان قد يصاب حتى في حال التماس مع شخص ليست لديه أية أعراض. ولكن لا تحصل الإصابة في كل حالة اقتراب أو تماس مع الشخص المصاب، وخصوصاً إذا كانت مناعة الفرد سليمة.


 


التشخيص


إضافة إلى الأعراض والعلامات المشاهدة لدى المريض، فإن هنالك فحوصاً مخبرية لتشخيص المرض. وهنالك نوعان رئيسان. النوع الأوّل يسمى (Monospot)  وهو عبارة عن فحص مخبري يتحرى وجود أضداد الفيروس في الدم، وهو يجرى لتشخيص الإصابة التي حصلت منذ فترة قريبة. وهذا الاختبار لا يمكن الاعتماد عليه في الأطفال دون عمر 4 سنوات.  أما الفحص الآخر فهو فحص أضداد الفيروس الأكثر تفصيلاً وهو يستطيع أن يميّز بين الإصابات التي حصلت منذ فترة قريبة وتلك التي حصلت في الماضي من خلال أرقام دقيقة يمكن الحصول عليها. وهذا الاختبار يمكن إجراؤه بأي عمر، وهذا يعطيه أفضلية عن الفحص الأوّل بطبيعة الحال.


 


المضاعفات


في غالب الأحوال تنتهي الإصابة بداء الوحيدات الإنتاني دون مضاعفات أو مشاكل تذكر، ولكن في حالات نادرة يمكن أن يصاب المريض بتمزق الطحال ولا سيما عند التعرّض للرضوض كالرياضات العنيفة وغيرها، وربما انخفض عدد الصفيحات الدموية إلى درجة كبيرة، وحصل تورّم في السحايا (وهي الأغشية المغطية للدماغ والنخاع الشوكي) وحتى تورّم في الدماغ نفسه. ونقول ثانية إن هذا المضاعفات نادرة جداً.


 


آليس في بلاد العجائب


 


تحصل أحياناً في داء الوحيدات  الأنتاني مضاعفات عصبية كالصداع (الذي يحصل في نصف المرضى)  والاختلاجات الصرعية وما يدعى (الهـَزَع) المتمثل باضطراب المشية  لدى المريض. ومن بين الأعراض العصبية هنالك أحد المضاعفات النادرة والطريفة لداء الوحيدات الإنتاني وهو  يسمى (متلازمة آليس في بلاد العجائب). وهذه تتصف باضطراب إدراك الحجوم والأشكال والقياسات والعلاقات الفراغية. فقد يرى المريض شيئاً كروياً وكأنه بيضوي، أو قد يرى شيئاً مكعّباً وكأنه متوازي مستطيلات ، وقد يرى الجسم القريب بعيداً والبعيد قريباً وهكذا، وهذا يعيد إلى الأذهان (آليس) ورحلتها في بلاد العجائب حيث ترى أشياء كثيرة مختلفة في أشكالها وأحجامها  عما تعرفه في الدنيا ومن هنا قام العالم الذي وصف هذه المشكلة باستعارة الاسم.  وقد تكون هذه المتلازمة هي العرض الأوّل في المرض وتظهر قبل أية أعراض أخرى مما يجعل التشخيص صعباً جداً بالنسبة لأي طبيب ويتطلّب استشارات متعددة.


 


 


المعالجة


 


إن المعالجة في داء الوحيدات الإنتاني هي معالجة عرضية. بمعنى أنه لا يوجد دواء يمكن أن يقتل الفيروس ويقضي عليه. وبالتالي يتم إعطاء الأدوية المسكنة مثل الأسيتامينوفين والأيبوبروفين للسيطرة على الحرارة والألم. ويمكن إعطاء حبابات البلعوم المتوفرة في الأسواق والتي يمكن بوساطتها اتسكين ألم البلعوم. كما أن شرب الكثير من السوائل هو أمر ضروري للتخلّص من المرض. ولا بد من أن يرتاح المريض في فترة الأعراض الحادة. وهنالك أمر أساس لا بد من ذكره في العلاج، وهو أن الطحال لدى المريض المصاب يكون هشاً، وإن أي رض على البطن قد يؤدي إلى تمزقه، وبالتالي فعلى المريض أن يتجنب كل ما من شأنه إصابة البطن بالرضوض كالرياضات العنيفة.


وفي حالات نادرة قد يضطر الطبيب لاستخدام بعض العلاجات كالكورتيزون في حال حصول انسداد الطرق التنفسية وفقر الدم الانحلالي ونقص الصفيحات الشديد . ولا بد من أن نذكر هنا أن المضادات الحيوية ليس لها أي مكان في علاج هذا المرض الفيروسي.


 


وماذا بعد؟


إن معظم المرضى المصابين بداء الوحيدات الإنتاني يتحسّنون خلال اسبوعين إلى ثلاثة أسابيع، وإن كان التعب العام قد يستمر لشهرين  أو ثلاثة أشهر. وربما حصل ــ في حالات نادرة ــ أن يستمر المرض لسنوات طويلة مع بعض الهجمات المتكررة منه، والتي تصبح أخف بالتدريج إلى أن يزول . وفي الماضي كان بعض العلماء يربطون هذا الفيروس بما يدعى (متلازمة التعب المزمن) ولكن الأبحاث الحديثة بيّنت عدم وجود  ارتباط بين المرضين وأن هذه المتلازمة غير معروفة الأسباب حتى الآن.


 


لويس كارول!!


هذه هي باختصار قصة (داء الوحيدات الإنتاني) وهي تعطي فكرة عامة عن هذا المرض الشائع والعجيب في آن ٍ معاً. فهل يمكن لأحد أن يتصوّر أن عالم الرياضيات البريطاني القس (تشارلز لوتويدج دودغسون) الذي نشر قصته الشهيرة جداً (أليس في بلاد العجائب) في عام 1865 في بريطانيا وتحت اسم مستعار هو (لويس كارول) …. هل كان يدري أن اسم قصته سيطلق على أحد  المضاعفات التي تحصل في مرض غريب يدعى (داء الوحيدات الإنتاني) والذي اكتشف الفيروس المسبب له عالمان بريطانيان (أيضاً)  بعد حوالي القرن من نشر القصة؟  مجرّد سؤال!!


 


 

Close Menu