يقولون …. يقولون !!

 


 


يقولون …. يقولون !!


 


الفرّاء واحد من علماء اللغة العربية المرموقين. ولد عام 144 للهجرة وتوفي في عام 207 للهجرة. أسس مع أستاذه الأوّل أبي جعفر الرؤاسي وأستاذه الثاني الكسائي ما يدعى مدرسسة الكوفة للنحو والتي كانت تتنافس بشكل مستمر مع مدرسة البصرة. له كلمة مشهورة قال فيها : (إني أموت وفي نفسي شيءٌ من حتى!) في إشارة إلى ما عاناه من كلمة (حتى) فهي كالاستعمار تأتي بألف لَبوسٍ و لَبوس. فهي تأتي تارةً حرف جر، و طوراً حرف غاية وإذا سبقت فعلاً فإنه يصاب بآفة النصب، فإذا سألت بماذا نصب الفعل؟ قيل لك: بأن المضمرة بعد حتى!


 


 (حتى ) هذه أحرقت قلب الفراء فقال فيها كلمته  التي ذهبت مثلاً. وأنا آوي إلى فراشي كل ليلة وفي نفسي شيءٌ من كلمة (يقولون)! وتقول لي: ولكن كلمة (يقولون) هي كلمة عادية، فلماذا تحمل عليها بهذا الشكل؟


 


 وأقول لك: إن كلمة (يقولون) ليست عادية أبداً لو كنت تعلم!


 


سيناريوهات كل يوم


 


دخلت الأم الفاضلة إلى عيادتي ومعها طفلتها الوليدة. وقد لفت نظري أنها قد ألبستها ملابس كثيرة لونها أصفر. ثوبها أصفر… وقبعتها صفراء …. وجواربها الصغيرة صفراء… وفوق ذلك ألصقت على شعرها الجميل شريطة صفراء!


 


 قلت: يبدو أنكِ تحبين اللون الأصفر.


 


 قالت: أنا أحبه ولكن هذا ليس هو السبب في اختياري له.


 


 ــ  وما هو السبب؟


 


  * لأنهم يقولون إن اللون الأصفر يمنع اليرقان الذي نسميه (الصفيرة) !


 


 ــ  اللون الأصفر يمنع اليرقان؟


 


 * نعم. هكذا يقولون.


 


ــ   ومن هم الذين يقولون؟


 


*   الناس!


 


 ــ  أي ناس بالتحديد؟


 


 *  لا أدري. ولكن هكذا يقولون.


 


 ــ أتمنى أن أعرف ولو مرة واحدة في حياتي واحداً من هؤلاء الذين يقولون.


 


*   وهل هنالك أحد آخر قال لكَ كلمة يقولون؟


 


ــ   أحد آخر؟! إنني أسمع هذه الكلمة كل يوم!


 


نماذج مما يقولون


 


*  ماذا يقولون غير ما قلته لك؟


 


ــ  يقولون إن السعال يمزق رئة الطفل.


 


 *  أوليس ذلك صحيحاً؟


 


ــ  يا سيدتي إن السعال هو عبارة عن آلية دفاعية تقوم بها رئتا الطفل بإخراج المواد الضارة التي تتراكم فيهما، فلماذا يمزق الرئتين؟


 


  * وماذا يقولون أيضاً؟


 


ــ  يقولون إن وضع قطعة من العملة المعدنية على الفتق السري عند الطفل ثم ربطها بشريط قماشي يؤدي إلى شفاء الفتق.


 


*  وما رأيك بهذا؟


 


ــ   إن القطعة المعدنية و الضغط المطبق عليها قد يؤديان إلى اختناق الفتق مما يدخلنا في مضاعفات لها أول و ليس لها آخر وقد يوجب الجراحة الفورية لإنقاذ الطفل.


 


  *  ولكن….. هذا ما قيل لي أن أفعله لطفلتي الأولى هدى.


 


ــ   ويقولون إن وضع التراب على الجرح يؤدي إلى شفائه و التئامه بسرعة، بينما يقول العلم إن هذا قد يؤدي إلى حصول الكزاز لدى الطفل فيشكل خطراً على حياته. هل أزيدك؟


 


 * تفضل.


 


 ــ  ويقولون إن إضافة دقيق القمح أو الأرز إلى حليب الطفل الوليد يؤدي إلى الشبع وعدم البكاء.


 


*  بالفعل… هذا ما سمعته.


 


ــ  ولكن الحقيقة هي أن الإضافة الباكرة للدقيق و غيره إلى غذاء الطفل قبل عمر أربعة أشهر قد تؤدي إلى مضاعفات كثيرة كالحساسية و الاضطرابات الهضمية.


 


 *  هذا أمر مخيف.


 


ــ  لقد أجبت عن سؤالكِ و أعطيتكِ بعض النماذج، فهل لكِ أن تجيبي عن سؤالي؟


 


*   أي سؤال.


 


 ــ  السؤال الدائم الذي لم أجد له جواباً حتى الآن….. من هم أولئك الذين يقولون؟


 


 



الخبرة والمنطق


 


قالت لي: أحب أن أجيب عن سؤالك. ولكن ليس لدي جواب محدد أذكر فيه أسماء أشخاص. ومع ذلك فيمكنني أن أقول لك إن الذين يقولون هم من أهل الخبرة وأصحاب المنطق.


 


 قلت: أما عن  الخبرة يا سيدتي فأحب أن أذكّركِ بقول لأحد الحكماء قال فيه لو كانت الخبرة وحدها تكفي لأصبحت أعمدة المسارح أفصح من جميع الخطباء. وأما عن المنطق فاسمحي لي أن أروي لك قصة عن الجاحظ. فقد كان من أهل المنطق والكلام. وقد قيل له يوماً إن الأطباء يمنعون تناول الحليب والسمك معاً فخليطهما يضر بالجسم. فقال الجاحظ إن هذا الكلام غير منطقي، فالمنطق يقول إن الحليب و السمك إذا كانا ينتميان إلى نفس الجنس فحريّ بأحدهما أن يحدث نفس الأثر الذي يحدثه خليطهما، وإن كانا من جنسين متضادين فجديرٌ بأحدهما أن يعاكس مفعول الآخر. وقام ــ نكاية بأهل الطب على ما يبدو ــ  بتناول الحليب و السمك على العشاء… فأصبح مفلوجاً!!


 


والطريف أن الفالج لم يكن السبب المباشر لوفاته ولكنه قضى تحت ركام من الكتب التي طالما كان مولعاً بها، وذلك بعد أن  وصل إلى عمر 96 عاماً وعاصر 12 خليفة عباسياّ!! حيث ولد  زمن المهدي وعاش في عصر الهادي فالرشيد فالأمين فالمأمون فالمعتصم فالواثق فالمتوكل فالمستعين فالمنتصر فالمعتز ثم مات في عصر المهتدي وذلك  عام 255 للهجرة.


 


 وأنا أقول لكِ إن هذه القصة الرمزية يمكن أن نتعلّم منها أن المنطق وحده لا يمكن أن نستنتج من خلاله حقائق علمية تطبّق في العلوم  التجريبية كالطب. وأقل ما يمكن أن نقوله عن الجاحظ في مغامرته الطعامية تلك إنه لم يحترم علم الكيمياء. فكان ما كان. إن من أول ما كانوا يعلمونه لنا خلال دراستنا الجامعية الأولى قاعدة تقول: (واحد زائد واحد لا يساوي إثنين بالضرورة في الطب).


 


أما عن كون خليط السمك باللبن ضاراً أم لا فلهذا حديث آخر.


 


عيسى بن هشام


 


إن كل من يروي كلاماً يفصح عن اسم الذي نقله عنه إلا رواة كلمة (يقولون). إلى درجة أن بديع الزمان الهمذاني في مقاماته لم يكن يروي نوادره ــ في حقيقة الأمر ــ عن أحد،  ولكنه مع ذلك اخترع شخصاً أسماه عيسى بن هشام وكان يروي عنه مقاماته فيقول : (حدثنا عيسى بن هشام).


 


 


بالنسبة لي لم تؤد جميع التحقيقات و التحريات اليومية التي أجريها إلى معرفة اسم أحد من الذين يقولون. فهلا تفضّل أحد الذين يقولون واتصل بنا وأخبرنا بشيءٍ جديد مما يقولون ثم أكمل فضله وأوضح لنا لماذا يقولون ما يقولون!


 


 


 

Close Menu