التحسس عند الأطفال
إذا أردنا أن نفكّر في موضوع (حسّاس) متعلّق بصحة الطفل، فربما كان من أوّل ما يخطر في البال قضية (التحسس)!
وليس المقصود هنا هو الجناس أو أي من فنون البديع، إنما الموضوع أتى هكذا عفواً. فالتحسس عند الطفل أو ما يحلو للكثيرين تسميته (الحساسية) هو بالفعل أمر ذو أهمية بالغة. فعندما يصاب الطفل بالربو تسأل الأم طبيبه عن السبب فيقول لها إنه التحسس، وحين يعاني طفل آخر من الإكزما أو سيلان الأنف المزمن وتستفسر عن العامل الذي أدى إليهما يأتيها من الطبيب الجواب عينه…. التحسس. فما هي حقيقة التحسس؟ وماهو مدى انتشاره؟ وما هي أعراضه؟
ما هو التحسس؟
إذا أردنا أن نعرّف التحسس بكلمات مختصرة فبإمكاننا أن نقول إنه عبارة عن (عمل مبالغ فيه للجهاز المناعي في الجسم). كما نعرف يوجد في الجسم جهاز مناعي وظيفته أن يواجه الأمرا ض ومسبباتها كالجراثيم والفيروسات. وفي حال وجود التحسس فإن الجهاز المناعي يتعامل مع مواد (بريئة) وكأنها عوامل ممرضة فيهاجمها فتحصل لدى المريض أعراض التحسس. هذه المواد البريئة تتراوح ــ من حيث نوعيّتها ــ من دواء كالبنسلين إلى غبار المنزل العادي إلى سؤر قطة إلى حبّة فستق!
الخلايا السمينة
نحن نحاول أن نتجنّب التعقيد العلمي ولكن هنالك حقائق لا بد من ذكرها عندما نشرح آلية التحسس. ولنضرب مثلاً على ذلك. عندما يتناول الطفل حبّة من الفستق وهو متحسس لها. فإن الجسم يفرز ما يدعى بالأضداد (وهي أضداد تدعى الكروينات أو الغلوبولينات المناعية) هذه الأضداد تلتصق بخلايا مناعية خاصة تسمى الخلايا السمينة. هذا النوع من الخلايا موجود في جميع أنحاء الجسم كالرئتين والأنف والجلد. بعد هذا الالتصاق تقوم الخلايا السمينة بإنتاج ما يدعى (الوسائط المناعية) ومن أشهر هذه الوسائط الهيستامين.
إن إفراز هذه الوسائط يؤدي إلى أعراض التحسس بحسب مكان وجود الخلايا السمينة التي تم تحريضها. فإن كانت في الرئتين حصلت أعراض الربو (كالوزيز الصدري) وإن كانت في الجلد حصلت أعراض الإكزما (كالاندفاعات والحكة) في حال وجودها في الأنف حصلت أعراض التهاب الأنف التحسسي (كسيلان الأنف المائي والحكة الأنفية).
وفي الحالات الشديدة من التحسس يحصل ما نسميه (التأق) كذلك الذي يحصل مثلاً في حالات التحسس الشديد للبنسلين حيث يؤدي الأمر إلى أعراض مهددة للحياة كنقص الضغط وضيق التنفس والصدمة والحكة الشديدة والاندفاعات الجلدية الخاصة التي تسمى (الشرى).
إن الخلايا السمينة ــ كما نرى ــ هي المفتاح لفهم السؤال الذي يطرح نفسه دائماً وهو: كيف يمكن للطفل المصاب بالتحسس أن تكون لديه أعراض مختلفة في أعضاء مختلفة؟ إن الخلايا السمينة موجودة في كل أعضاء الجسم.
الوراثة لها دور
إن التحسس هو من الأمراض الموروثة. ومن المهم أن نعلم أن الوراثة لا تكون نوعية تماماً. فرجل لديه ربو يمكن أن يولد له طفل مصاب بالإكزما. وأم لديها التهاب أنف تحسسي يمكن أن تلد طفلاً مصاباً بالربو وهكذا. وكلما كان عدد أفراد العائلة المصابين بالحساسية أكثر كلّما ازداد احتمال إصابة الطفل بالمرض.
متى يظهر التحسس؟
يمكن للتحسس أن يظهر في أية مرحلة من مراحل الحياة، وإن كانت العادة أن تكون بدايته في الطفولة. ويغلب أن يكون المظهر الأوّل للتحسس هو الإكزما فهي شائعة حتى في الشهر الأوّل من العمر. وربما حصلت بعد ذلك الأشكال الأخرى للتحسس كالربو والتهاب الأنف التحسسي. يضاف إلى ذلك أن التحسس للمواد الطعامية يحصل قبل التحسس للعوامل البيئية (كالغبار والحيوانات). ونذكر أيضاً أن التحسس للمواد الطعامية (وأشيعها الحليب والبيض والفستق ــ أي الفول السوداني ــ والقمح والصويا) يختفي مع الزمن في 85% من الحالات. بينما يكون التحسس للعوامل البيئية أكثر عناداً.
كيف نشخّص التحسس؟
في الحالات البسيطة لا يوجد داعٍ للاختبارات التشخيصية، بل إن التدبير الأمثل يعتمد على التعامل مع الأعراض ومعالجتها بما يناسبها. وقد أفردنا أحاديث سابقة للكلام عن الربو والإكزما بالتفصيل. أما الحالات الأكثر تعقيداً كالربو الشديد والتحسس الحاد للمواد الطعامية فإنها تقتضي تحويل الطفل لأخصائي الأمراض الحساسية الذي سيجري اختبارات خاصة على الجلد لتحديد المواد التي يتحسس لها المريض. كما أن هنالك اختبارات دموية لتشخيص التحسس وإن كانت أقل استخداماً.
الوخزة التي تنقذ الحياة
لقد تحدثنا في السابق عن علاج أمراض تحسسية خاصة كالربو والإكزما. ولكننا نحب أن نذكر هنا أن هنالك حقنة خاصة تسمى Epipen وهي تعني (قلم الإبينفرين) وهو عبارة عن جهاز بسيط له شكل القلم يحمله الطفل معه أينما ذهب وهو يعطى للأطفال الذين حصلت لديهم حالات من التحسس الشديد المهدد للحياة (كالتحسس للفستق أو وخزات النحل وغيرها) وفي حال التعرّض للمادة المحسس يقوم الطفل بحقن نفسه بهذا الجهاز وقد يكون ذلك سبباً في إنقاذ حياته.
التحسس في ازدياد مستمر
لقد حار العلماء في الحقيقة الثابتة المعروفة في الأوساط العلمية وهي أن التحسس يزداد بشكل مستمر. وهنالك نظريات متعددة في هذا الشأن أحدها يقول إن زيادة الملوّثات الناجمة عن الصناعة هي السبب. ونظرية أخرى تقول إن البيوت التي نسكنها اليوم أصبحت (مغلقة وكتيمة) أكثر من الماضي مما يحبس المواد المحسسة داخلها. ولكن أكثر النظريات طرافةً (وقبولاً في الأوساط العلمية!) هي أن البيئة التي نعيش فيها اليوم هي أكثر نظافةً من الماضي بمعنى أن وجود معقّمات الجو والملابس وغيرها قد قللت من عدد الجراثيم الموجودة في المحيط وهذا يعني أن الجهاز المناعي لم يعد له ما يشغله من الأجسام الضارة التي هو موجود أصلاً ليهاجمها وبالتالي فإنه يشغل نفسه بمهاجمة المواد غير الضارّة!! فماذا يمكن أن نقول هنا؟ هل نقول إن العلماء اكتشفوا تأثيراً جانبياً للنظافة هو التحسس؟! سؤال محيّر ولكنه مشروع أليس كذلك؟