قصور الغدة الدرقية
عندما كنا أطفالاً كثيراً ما كنا نسمع عبارة مفادها أن فلانة ً (أو فلاناً) من المصابين بالـ (الغدّة). وعندما كنا نسأل ما هي الغدّة كثيراً ما كان المتكلّم يشير إلى عنقه باعتبار أن (الغدّة) هي في العنق. وهذا النوع من المحاورات يجعل هذه الغدة أشهر الغدد على الإطلاق. فالجسم فيه الكثير من الغدد الصماء مثل النخامى، وقشر الكظر والبنكرياس ولكن الأشهر على الإطلاق باسم الغدّة هو (الغدّة الدرقية). وكأي غدة في الجسم فإن الغدة الدرقية (أو الدرق) يمكن أن تصاب بنقص النشاط كما أنها يمكن أن تصاب بفرط النشاط. وقد اخترنا اليوم أن نتحدّث عن قصور الغدة الدرقية لما له من أهمية عند الأطفال، وربما تحدثنا في عدد قادم عن فرط نشاط هذه الغدة الهامة وقد يمتد حديثنا للتكلّم عن الغدد الصمّاء الأخرى في الجسم.
الغدد الصمّاء
هي الغدد التي تفرز منتجاتها (الهرمونات) مباشرةً إلى الدم وليس من خلال قناة. وتشكل هذه الغدد في مجموعها ما يسمى (الجهاز الصمّاوي) والغدد الصماء الرئيسة هي النخامى والبنكرياس والمبيضان والخصيتان والدرق والكظر(أي الغدة الموجودة فوق الكلية) والغدة الصنوبرية والثيموس (الغدة الصعترية) . وهنالك أعضاء أخرى أقل شهرة بالنسبة لنشاطها الصماوي مثل المعدة التي تفرز هرمون (غرلين). وتعتبر الغدة النخامية ملكة الغدد الدرقية وهي التي تشرف على تنظيم إفراز هذا الجهاز الصماوي من خلال عمليات معقدة تنظّم من خلالها الإفراز زيادة ونقصاناً حسب حاجة الجسم. وتعمل النخامى بدورها بإشراف منطقة خاصة في الدماغ تسمى (تحت المهاد).
ما هي الغدة الدرقية؟
الغدة الدرقية هي عبارة عن غدة تشبه الفراشة في شكلها أي أن لها جناحين أيمن وأيسر ويصل بينهما جسم دقيق يسمى (البرزخ). وتفرز هرموناً خاصاً يسمى (هرمون الدرق) أو (الثيروكسين). هذه الغدة الصغيرة ذات أعمال هامة جداً في الجسم، ويمكن أن نختصر عملها بأنها تتحكم باستخدام الطاقة في الجسم. وبالتالي فإن المصاب بنقص في نشاطها قد يعاني من زيادة الوزن وارتفاع الكولسترول وزيادة احتمال الإصابة بالسكتة الدماغية والقلبية. وبالنسبة للأطفال فإن إصابتهم بها ذات علامات متميّزة تزداد شدة كلما كانت الإصابة باكرة في العمر. وهنالك بعض الأطفال الذين يولدون دون غدة درقية أي أنهم مصابون بما يسمى (غياب الدرق) وفي حال عدم الانتباه إلى الحالة والقيام بتشخيصها وعلاجها فإن المضاعفات وخيمة حيث يحصل نقص في التطور العقلي ومضاعفات متعددة تنتهي بالموت، وهذا نادراً ما يحصل اليوم نتيجة لفحوص النخل التي تجرى على جميع المواليد في كل المشافي للكشف المبكر عن بعض الأمراض ومن بينها نقص نشاط الغدة الدرقية. وهنالك حالة خاصة من الإصابة وهي إصابة الأم الحامل، وفي حال عدم المعالجة فإن الأذى يصيب الحامل وجنينها أيضاً.
ما هو السبب؟
إن غياب الدرق عند الوليد هو عادة مجهول السبب. وإذا تحدثنا بشكل عام، فإن أهم الأسباب في الولايات المتحدة الأمريكية لقصور الدرق هو مرض يدعى (هاشيموتو). وهو عبارة عن مرض يكتنف الجهاز المناعي في الجسم وبالتالي فإن هذا الجهاز المناعي يهاجم الغدة الدرقية وكأنها جسم أجنبي أو ممرض وهذا يؤدي إلى نقص في إمكانية الغدة على إفراز الهرمون فتظهر أعراض قصور الدرق. وهنالك أسباب أخرى أقل شيوعاً مثل الالتهابات الفيروسية والمعالجة الشعاعية للسرطان وبعض المواد الدوائية مثل الليثيوم.
الدرق واليود
إذا كانت الدول المتقدمة قد تخلّصت من مشكلة نقص نشاط الدرق الناجم عن العوامل الغذائية فإن هذا الأمر لا يزال موجوداً في الدول النامية ومنها بلادنا. والأمر كله متعلّق بعنصر غذائي يدعى اليود. ويحتاج الجسم كل يوم إلى 150 ميكروغراماً من اليود. وفي حال نقص أو زيادة هذا المادة في الغذاء فإن الهرمون الحاث للدرق سيتأثر وبالتالي يتأثر إفراز الدرق. وإن المصادر الطبيعية لليود هي الحياة البحرية مثل عشب البحر وبعض الأسماك والأطعمة البحرية. وفي الدول المتقدمة تتم إضافة اليود إلى ملح الطعام وفقاً لمعاير وأرقام محددة. ويبلغ ما يتناوله الفرد في أمريكا حوالي 200 إلى 300 ميكروغرام كل يوم، وأما في الدول التي تعتمد الأطعمة البحرية كثيراً كاليابان فيبلغ 5 إلى 13 ألف ميكروغرام في اليوم (دون أن يكون لذلك تأثيرات جانبية). وفي المناطق التي يقل فيها تناول اليود (كالمناطق البعيدة عن البحر وغيرها) فإن ذلك قد يؤدّي إلى نقص نشاط الدرق الذي نتحدث عنه كما أنه يؤدّي إلى ما يدعى (الجدرة) أو (السلعة) وهي تعني ضخامة الدرق. ويعتبر نقص اليود من الأسباب الرائدة للتخلّف العقلي في الدول النامية والسبب طبعاً هو نقص نشاط الدرق.
الأعراض
إن قصور الدرق قد يؤدي إلى طيف واسع من الأعراض منها التعب والضعف والاكتئاب، وجفاف الجلد وتقصّف الأظافر وعدم القدرة على تحمّل البرد وأيضاً الإمساك ومشاكل الذاكرة والتفكير وعدم انتظام الدورة الطمثية. وأيضاً فإنه كثيراً ما يؤدي إلى زيادة الوزن. وكثيراً ما يحصل في الأطفال أن الطفل يشكو من البدانة التي لا تعنو للنظام الغذائي المنقص للوزن ثم تجرى الفحوص المخبرية ويتبيّن أن الطفل مصاب بقصور الدرق. وهنالك حالة أخرى تجرى فيها اختبارات الغدة الدرقية وهي ما يدعى (الحاصة البقعية) أو ما يعرف لدى الناس بالـ (ثعلبة). حيث أن 1% من المصابين بالثعلبة يكون لديهم قصور في الغدة الدرقية. إن بداية الأعراض كثيراً ما تكون مخاتلة وقد تصعب ملاحظتها في البداية. وفي حال كون المصابة أوالمصاب متقدمين في العمر فإنهما قد يظنان أن الأعراض هي من العلامات الطبيعية للتقدم في السن. ولكن زيادة الأعراض وتعددها يؤدي في النهاية إلى زيارة الطبيب الذي يقوم بكشف المرض من خلال الفحوص المخبرية الخاصة.
المعالجة
يقوم الطبيب بمعالجة المرض من خلال دواء هرموني يعوّض النقص في الهرمون الدرقي الطبيعي. ومعظم الناس تتحسن أعراضهم خلال أسبوع إلى أسبوعين. وعادة ما تختفي الأعراض خلال بضعة أشهر. والنقطة الهامة هو أن على المريض أن يتناول الدواء مدى الحياة. ولا يخفى أن هذا الشكل من المعالجة هو معالجة هرمونية دقيقة تحتاج لاتباع تعليمات الطبيب بحرفيّتها وإلاّ فإن الأمر قد يؤدي إلى عدم الاستجابة في حال عدم تناول الدواء بالشكل الكافي أو إلى أعراض فرط نشاط الدرق في حال تناول كميات كبيرة من الدواء.
وهنالك حالات خفيفة من فرط نشاط الدرق قد لا تستوجب المعالجة فوراً ولكن يقوم الطبيب بمراقبتها وإعطاء الدواء إذا ساءت الحالة. أما في حال النقص الشديد في نشاط الدرق فإن المعالجة ضرورية فوراً لمنع المضاعفات العديدة لهذا المرض وأشهر هذا المضاعفات ما يدعى (سبات الوذمة المخاطية) ولا وقت لشرح هذا الآن ولكنه قد يكون قاتلاً.
قصور الدرق والمناعة
إن الكثير من حالات قصور الدرق هي ناجمة عن مرض مناعي كما ذكرنا. وبالتالي فإن من الطبيعي أن نرى هذا المرض مع الأمراض الأخرى الناجمة عن مشاكل مناعية ومنها الداء السكري والتهاب المفاصل الرثواني والحاصة البقعية كما ذكرنا. وإن إصابة مريض ما بأحد هذه الأمراض يستدعي انتباهاً أكثر للأعراض التي ذكرناها سابقاً ويستوجب بالتالي القيام بالاختبارات التشخيصية لقصور الدرق. وهنالك نقطة أخرى تلعب دوراً هاماً في الإصابة وهي الوراثة، حيث يشيع حصول الإصابة في العائلة نفسها وهكذا فإن وجود الإصابة في أحد أفراد العائلة يستدعي انتباهاً أكبر للأفراد الآخرين في حال ظهور أعراض توحي بقصور الدرق.
مثال ممتاز
إن قصور الغدة ا لدرقية هو مثال ممتاز على المرض الذي يمكن معالجته بسهولة ويسر ودون تعقيد من جهة والذي يؤدي إهماله أو عدم تشخيصه من جهة أخرى إلى مضاعفات شديدة جداً وقد تكون قاتلة.
وهذا النوع من الأمراض هو الذي تهتم السلطات الصحية المسؤولة بإجراء الفحوص النخلية لتشخيصه. وهذا فإننا نرى اختبار الغدة الدرقية موجوداً على لائحة اختبار الولدان في جميع الولايات الأمريكية وفي حال كون النتيجة غير طبيعية فإن المكتب المسؤول في وزارة الصحة يقوم بإخبار الطبيب الذي يقوم بدوره بالاتصال بالعائلة من أجل القيام بفحوصات إضافية لتشخيص المرض والقيام بعلاجه بإشراف الأخصائي بالغدد الصماء. إن معالجة باكرة كهذه هي منقذة لحياة الطفل وتجنبه المضاعفات القاتلة للمرض