ماذا تعرف عن مرض الإيدز؟
في تاريخ الطب علامات فارقة لا يمكن المرور عليها مروراً سريعاً، بل يجب الوقوف عندها والحديث عن تاريخها وأسبابها. ولعل ظهور داء الإيدز الذي يمكن اعتباره بسهولة داء العصر الحاضر، من العلامات الفارقة الهامة التي لا بد للإنسان من الاطلاع عليها. هذا المرض الذي ترافق فور ظهوره منذ ما يزيد عن ربع قرن بالكثير من الخرافات والأوهام والمفاهيم الخاطئة، لا يزال يترافق ، حتى اليوم ، في أذهان الكثير من الناس بما لا يستهان به من هذه المفاهيم. وسيحاول هذا المقال إلقاء الضوء على الحقائق العلمية وإيضاح النقاط الملتبسة في هذا المجال.
وإذا كان الحديث عن الجانب العلمي للمرض هاماً، فإن الحديث عن تاريخه لا يقل أهمية عن الجانب العلمي. فمعرفة تسلسل التعرّف إلى المرض واكتشافه يجب أن تكون واضحة في ذهننا تجاه داء يصيب اليوم أعداداً كبيرة جداً من المرضى وتقوم الحكومات والدول بتخصيص ميزانيات ضخمة للتعامل معه ومنع انتشاره. فكيف بدأ هذا المرض؟
سنقوم بتخصيص الحلقة الأولى من هذا المقال للحديث عن تاريخ الإيدز، ثم نقوم في الحلقة القادمة بالحديث عن الجوانب العلمية منه.
تاريخ سابق
إذا كان مصطلح الإيدز قد بدأ استخدامه في عام 1982 فإن الأمانة العلمية تلزمنا بذكر أن الحالة الأولى من المرض كان قد تم تشخيصها في عام 1959 من قبل العلماء ولم تكن تعرف بالإيدز كما لم تكن الصورة ظاهرة بعد في أذهان الأطباء. ونذكر أيضاً أن بعض علامات الإيدز كانت قد ظهرت على الشاذين في السويد وأمريكا وتنزانيا وهاييتي منذ عام 1978 ولكن المرض لم يكن قد وصف بعد.
التاريخ
في الخامس من حزيران عام 1981 أعلنت المراكز الطبية للأمراض في الولايات المتحدة الأمريكية أنه في الفترة الواقعة بين تشرين الأوّل 1980 وأيّار من عام 1981 تمت معالجة خمسة شبان من الشاذين جنسياً من مرض ذات الرئة بطفيلي خاص يصيب الأشخاص مضعفي المناعة ويدعى (المتكيّس الرئوي الكاريني). وقد تم هذا في ثلاث مستشفيات مختلفة في كاليفورنيا. وقد مات اثنان من المرضى. وقد وجد لدى هؤلاء المصابين أيضاً التهابات غريبة أخرى مثل الإصابة بما يدعى (الفيروس الخلوي العرطل) وأنتانات في الأغشية المخاطية بنوع من الفطور يسمى (المبيضّات البيض). وفي الرابع من شهر تمّوز من العام نفسه أعلن أنه في الثلاثين شهراً الماضية تم تشخيص 26 حالة من سرطان جلد يسمى (داء كابوزي العفلي) في رجال شاذين جنسياً أيضاً، وقد مات منهم ثمانية أشخاص خلال عامين من التشخيص. وحصلت في ذلك العام 234 حالة وفاة ناجمة عن هذه (الحالة الغريبة الجديدة)!!
الإيدز
تم استخدام مصطلح الإيدز للمرّة الأولى في التاريخ في 27 تمّوز من عام 1982 وهو عبارة عن مختصر للكلمات التالية
Acquired immunodeficiency syndrome (AIDS)
وترجمتها هي (متلازمة نقص المناعة المكتسبة).
ويذكر هنا أن (لاري سبيكز) سكرتير الرئيس ريغان لشؤون الصحافة قام بإلقاء بعض النكت المتعلّقة بالإيدز خلال مؤتمر صحفي عقد في 15 تشرين الأوّل من عام 1982 ولم يكن الرئيس نفسه قد تحدّث في العلن عن المرض حتى ذلك التاريخ. وفي ذلك العام تأسست جمعية (الأزمة الصحية للشاذين جنسياً) في نيويورك استجابة لحصول المرض. وقد بلغ عدد الوفيات في ذلك العام في أمريكا بسبب الإيدز 853 حالة. وكانت هنالك حالة من الذعر تسيطر على الناس بشأن المرض الذي بدأت تظهر الكثير من الأساطير المتعلّقة به ومسبباته. وفي عام 1983 حذرت السلطات الصحية في أمريكا بنوك الدم من وجود مشكلة انتقال المرض من خلال نقل الدم وطريقة حفظه وتعبئته. وقد بلغت حصيلة الوفيات في ذلك العام في أمريكا 2304 حالات. وتم اكتشاف الفيروس المسبب للمرض في معهد باستور في فرنسا في ذلك العام، ثم ادّعى الدكتور (روبرتو غالو) في أمريكا بعد عام من الاكتشاف الفرنسي أنه اكتشف فيروس الإيدز! وأدّى ذلك إلى بعض اللغط في الأوساط العلمية.
الفحص المخبري
في عام 1985 قامت هيئة الغذاء والدواء في الولايات المتحدة الأمريكية بمنح ترخيصها للاختبار الدموي الأوّل لتشخيص الإيدز والذي تمت دراسته في أمريكا واليابان. وتم في ذلك العام أيضاً عقد المؤتمر الدولي الأوّل لهذا المرض في مدينة أتلانتا بولاية جورجيا الأمريكية. وشهد ذلك العام أيضاً أمراً هاماً حيث ذكرالرئيس ريغان،وللمرة الأولى في حديث عام كلمة الإيدز في معرض إجابته على سؤال أحد الصحفيين، وذلك في 17 أيلول.ثم عاد وذكرها أيضاً في عام 1986 في مذكرته للكونغرس. وبلغت الوفيات في ذلك العام 5636 حالة وكان أحد ضحاياها النجم السينمائي (روك هدسون). وفي عام 1986 نشر الدكتور إفرت كوب ، الجراح العام في أمريكا ، تقريراً عن الإيدز دعا فيه إلى نشر الوعي الجنسي لدى الناس لتجنب هذا المرض.
الدواء الأوّل!!
بعد بحث مستفيض من قبل العلماء عن دواء لمرض الإيدز حصلت شركة (غلاكسو) في عام 1987على رخصة لدوائها الجديد (زيدوفودين) المعروف باسم
AZT
وهو دواء يؤخر تطوّر المرض وإن كان لا يقضي عليه. وقامت أمريكا بمنع دخول المهاجرين والمسافرين المصابين بالمرض إلى أراضيها. وألقى الرئيس ريغان في هذا العام خطابه الكبير الأوّل المتعلّق بالإيدز وذلك أمام (كلية الأطباء) في فيلادلفيا. وقد دعاه العدو العام رقم واحد! ويذكر أن ريغان اعتذر في عام 1990 بعد أن انتهت فترة رئاسته عن عدم اهتمامه بالإيدز كما ينبغي.
قوانين وإجراءات
في عام 1988 قامت الحكومة الأمريكية بإصدار قوانين تمنع التمييز ضد العمال الفدراليين المصابين بالإيدز، كما قامت بإرسال 107 ملايين نسخة من منشور عنوانه (فهم الإيدز) كتبه الدكتور كوب. علماً بأن عدد الوفيات في عام 1989 كان قد وصل إلى مايقارب 15000 حالة في أمريكا. وفي عام 1991 أعلن لاعب كرة السلة الشهيرة (ماجيك جونسون) أنه مصاب بفيروس الإيدز،وقد توقف عن اللعب حينها ليعود له في عام 1996. وفي عام 1997 نشرت مراكز السيطرة على الأمراض في أمريكا تقريرها الأوّل عن حالة إيدز (يحتمل) أنها انتقلت عن طريق القبل. وفي هذا العام بدأت الوفيات الناجمة عن الإيدز في أمريكا بالهبوط بشكل واضح ووصلت 21 ألف حالة بعد أن كانت قد وصلت إلى ما تجاوز 48 ألف حالة في عام 1995. وقد تم تقديم العديد من أدوية الإيدز خلال هذه الأعوام المتوالية، وكل منها ينتمي إلى مجموعة دوائية مختلفة وله فوائد خاصة. ولكن لا يستطيع أحد منها القضاء على الفيروس نهائياً.
واليوم
في الثالث من آب عام 2008 أعلنت مراكز السيطرة على الأمراض في الولايات المتحدة أن عدد حالات الإصابة بفيروس الإيدز التي تم تشخيصها في أمريكا عام 2006 قد وصلت إلى 56 ألف حالة. بعد أن كان الاعتقاد أن عدد الحالات هو 40 ألف حالة، ولكن التدقيق في الإحصائيات ووسائل التشخيص توصّل إلى هذا الرقم الجديد. أي أن هنالك 22 حالة جديدة كل عام لكل 100 ألف نسمة. وكان الرقم قد وصل إلى قمته في منتصف الثمانينات بواقع 130 ألف حالة ووصل إلى مستوى منخفض في منتصف التسعينات بواقع 50 ألف حالة (بفيروس الإيدز). ونذكر هنا أن معدّلات الوفاة كانت في الاتجاه نفسه والتوزع نفسه أيضاً. حيث بلغ عدد الوفيات 14 ألف حالة في عام 2006. علماً أنه يجب التفريق بين كلمة إصابة بفيروس الإيدز وبين مرض الإيدز ذاته كما سنشرح في الحلقة القادمة. ونذكر أن عدد حالات الحدوث مستقر نسبياً منذ عام 1999 . وتتناقص الإصابات عند متعاطي المخدرات الوريدية وعند الأشخاص الطبيعيين جنسياً وتتزايد عند الشاذين جنسياً من الرجال. ويبلغ عدد المصابين بالمرض منذ تشخيصه الأول في أوائل الثمانينات مليون شخص وعدد الوفيات الإجمالي نصف مليون تقريباً. ونقول أخيراً إن هذه الإحصائيات هي في أمريكا وإن الحالات في أمريكا تمثل 10% من الأرقام العالمية. ويتوقع الكثير من الخبراء أن يصبح الإيدز السبب الثالث للوفاة في العالم في عام 2030 وهو رقم مخيف ولا شك.
الإيدز، وفيروس الإيدز
إن فيروس نقص المناعة المكتسبة أو ما يسمىHIV هو الفيروس المسبب لداء نقص المناعة المكتسب وهو الإيدزAIDS. هذا الفيروس يضعف قدرة الإنسان على مقاومة الإنتانات والسرطانات. وإن المريض لا يصاب بالإيدز بمجرّد التقاطه للفيروس. فهنالك من نقول عنه إنه مصاب بفيروس HIV ، وهنالك من نقول عنه إنه مصاب بالإيدزAIDS. والسؤال هو: متى تحصل نقطة التحوّل؟ أي متى نقول عن المصاب بالفيروس إنه مصاب بالإيدز؟ يحصل هذا عندما يبدا المريض الذي يحمل الفيروس بالإصابة بالإنتانات أو السرطانات أو عندما يصبح تعداد الخلايا التي تسمىCD4 (وهي عبارة عن كريات بيضاء مقاومة للإنتانات) أقل من 200. ويتم تحديد عدد هذه الخلايا من خلال اختبار دموي يجريه الطبيب. ومن المعروف أن بعض الناس يكون لديهم فيروس الإيدز لسنوات قبل أن يحصل لديهم مرض الإيدز. وفي الوقت الحاضر فإن الفيروس والمرض ليسا قابلين للشفاء، أي أنه لا توجد لدينا معالجات فعالة لقتل الفيروس والقضاء على المرض. ولكن هنالك بعض الأدوية التي تساعد المريض وتدعم صحته.
كيف يقوم الفيروس بإحداث المرض؟
إن فيروس نقص المناعة الذاتية يهاجم الخلايا CD4 المقاومة للإنتانات. وعندما يهبط عدد هذه الخلايا دون رقم معيّن (200) فإن قدرة الإنسان على مقاومة الجراثيم والطفيليات والفيروسات والسرطانات تصبح أقل، وبالتالي فإن جسمه يصبح عرضة لأمراض فتاكة وقاتلة. وهكذا فإن الشخص يصاب بأمراض لا يصاب بها الإنسان الطبيعي ذو المناعة العادية. فمرض المتكيّس الرئوي الكاريني الذي ذكرناه في الحلقة الماضية هو عبارة عن طفيلي يؤدّي إلى حصول ذات الرئة عند المصاب بالإيدز، وكثيراً ما تكون الإصابة قاتلة.
ماهو الإيدز؟
إن الإيدزAcquired Immunodeficiency Syndrome هو المرحلة النهائية من الإصابة بفيروس الــ HIV . وفيه تحصل الإنتانات وأيضاً تحصل بعض الأمراض الخطرة التي ندعوها بالأمراض المميّزة للإيدز.
كيف تحصل الإصابة؟
وفقاً لمركز التحكم بالأمراض الأمريكي فإن عدد المصابين بالفيروس أو الإيدز في أمريكا هو مليون ومئتا ألف مصاب. وإن 25% من هؤلاء لا يعلمون أنهم مصابون بالفيروس! ويبلغ عدد الإصابات الجديدة 42 ألفاً كل عام. وتحصل الإصابة عندما تدخل سوائل الجسم من شخص مصاب إلى مجرى دم شخص آخر. وسوائل الجسم المذكورة في هذا المجال هي الدم والمنيّ والسوائل المهبلية والحليب. ويمكن أن يتم الدخول من خلال بطانة الفم أو الشرج أو الأعضاء التناسلية أو الجروح الجلدية. ويتم النقل من قبل الذكور والإناث على حد سواء. وإن الشخص المصاب بالفيروس قبل إصابته بأعراض الإيدز يمكن أن يكون بحالة صحية ممتازة ظاهرياً ولا يشعر بأية أعراض ومع ذلك ينقل المرض للآخرين. كما أن الأم المصابة يمكن أن تنقل المرض إلى جنينها.
حقائق وأساطير
إن أشيع الطرق لنقل المرض هي الممارسة الجنسية المشبوهة دون استخدام وسائل الحماية المعروفة. والاشتراك في الحقن التي يتم عن طريقها أخذ المخدرات وأيضاً الإبر التي يتم استخدامها في الوشم وغيره. كما أن نقل الدم هو أحد وسائل النقل وإن كان الاحتمال بعيداً جداً في أمريكا وأوربا الغربية نتيجة لمراقبة الدم الذي يستخدم للنقل للآخرين. إن وسائل النقل هذه هي أمور مثبتة علمياً بطبيعة الحال. ولكن من الضروري أن نعلم أن الإيدز لا ينتقل عن طريق اللمس أو المعانقة أو السباحة في حوض سباحة استخدمه المصاب. وكذلك لا ينتقل الإيدز عن طريق المراحيض العامة ولا عن طريق الشرب في الكأس نفسه أو استخدام الملاعق والشوك والسكاكين والهواتف التي استخدمها شخص مصاب. كما أنّه لا ينتقل عن طريق لسعات البعوض وغيرها من الحشرات.
ونذكر هنا أن جميع العاملين في المجال الصحي هم معرّضون ــ ولأسباب واضحة ــ أكثر من غيرهم للإصابة بالمرض، وبالتالي فإن عليهم الحذر في هذا المجال. فالممرضة التي تتعرّض لوخزة بإبرة ملوّثة قد تصاب بالمرض كما أن تعرّض الجرح لدم أو سوائل مصاب قد يؤدي للإصابة. كما أن وصول سوائل المريض إلى العين أو الأنف قد يكون طريقاً لنقل المرض أيضاً. وهذا الأمر كان سبباً لخوف شديد في الأوساط الطبية لسنوات طويلة وكان الكثير من العاملين في الحقل الطبي يقومون بإجراء الفحوص المخبرية على أنفسهم بشكل وسواسي.
الفحوص المخبرية
إن الطريقة الوحيدة لمعرفة فيما إذا كان الشخص مصاباً بالفيروس هو إجراء الفحص المخبري. ومعظم الفحوص التي يتم إجراؤها هي فحوص دموية. وإن كانت بعض الفحوص تقوم باختبار البول أو اللعاب. وهنالك بعض الفحوص التي يتم إجراؤها في المنزل، ولكن وكالة الغذاء والدواء الأمريكية لم تعط رخصتها لاستخدام أي منها نظراً لعدم صحّة ن