ما هو التهاب السحايا؟


 


ما هو التهاب السحايا؟


 


هنالك بعض الأمراض التي أحب أن أطلق عليها اسم (الكلاسيكيات المرعبة) في طب الأطفال. وهي تلك الأمراض التي يدور اسمها على كل لسان بين الناس وعادة من خلال قصص مرعبة ومخيفة يتناقلها الأهل عبر الأزمنة ولكن ــ في غالب الأحيان ــ دون معرفة علمية حقيقية بطبيعة  المرض الذي يتم تناوله وكأنه شبح من نوع خاص يصعب تحديد ملامحه، وهذا الغموض يزيد الرعب شدّة ويجعل مهمة  الطبيب في شرح المرض للأهل مهمة صعبة. ولو كان لي أن أضع قائمة بأسماء الأمراض التي تنتمي إلى هذه الفئة لوضعت على رأسها مرض التهاب السحايا. فكثير من الناس يتناقلون إن الطفل الفلاني قد أصيب بفقد الكلام وأن آخر أصيب فقد السمع إلى آخره نتيجة للإصابة بالتهاب السحايا. فهل هذا الكلام حقيقي؟ وما هو التهاب السحايا؟ وما هي السحايا أصلاً؟ وهل لالتهاب السحايا علاج؟


 


 


السحايا والتهاب السحايا


السحايا هي أغشية تحيط بالجهاز العصبي المركزي أي المخ والمخيخ والبصلة السيسيائية والحبل الشوكي. فالمعروف أن هذه الأجزاء التي تشكل الجهاز العصبي المركزي تحاط بهذه الأغشية لحمايتها من الأذيّات والرضوض. ويزيد الحماية سائل موجود في الفراغ بين الأغشية  والجهاز العصبي المركزي ويسمى السائل الدماغي الشوكي. وبناء على هذا الإيضاح البسيط فإن التهاب السحايا هو التهاب هذه الأغشية والسائل. وربما دعاها البعض (الحمى الشوكية) لأنها تصيب السائل الدماغي الشوكي. ويحصل الالتهاب نتيجة لفيروس أو جرثوم. ومن المهم جداً للطبيب معرفة فيما إذا كان الالتهاب ناجماً عن الإصابة بجرثوم أو فيروس لأن شدة المرض والمعالجة يختلفان حسب العامل الممرض. وعلى العموم فإن التهاب السحايا الفيروسي هو أقل شدّة وآثاراً من التهاب السحايا الجرثومي، وكثيراً ما يشفى الالتهاب الفيروسي دون معالجة، بينما يحتاج الالتهاب الجرثومي لمضادات حيوية من نوع خاص تعطى من خلال الوريد. وفي حال كون المرض الجرثومي شديداً فإنه قد يؤدي إلى أذية في الدماغ أو نقص في السمع أو مشاكل في التعلّم لدى الطفل. ولايكفي الطبيب أن يعرف فيما إذا كان الالتهاب فيروسياً أو جرثومياً. ففي حال كونه جرثوميّاً فلا بد من معرفة نوعية الجرثوم بالتحديد التي أدّت إلى الإصابة ولا بد من الحصول على نتائج نوعية لزراعة السائل الدماغي الشوكي لتحديد المضاد الحيوي الفعّال. قبل عام 1990 كانت الإصابة بمايدعى (المستدميات  النزلية) هي الأشيع بين الإصابات الجرثومية إلى أن بدأ استخدام اللقاح المضاد لهذا الجرثوم بشكل روتيني مما أدّى إلى نقص واضح في الإصابة بهذا النوع من الجراثيم. واليوم أصبحت الجراثيم الرئوية والجراثيم السحائية هي الأكثر شيوعاً.


 


 


الأعراض والعلامات


 


يؤدّي التهاب السحايا إلى ارتفاع الحرارة والصداع وصلابة العنق وذلك في الأطفال بعد عمر سنتين. وربما تطوّرت هذه الأعراض بسرعة (ساعات إلى أيّام) ، وربما أصيب المريض بالغثيان والإقياء والانزعاج من الضياء والنعاس. وأمّا في الولدان والرضع فيكون تشخيص المرض أصعب حيث قد تغيب الأعراض الكلاسيكية المذكورة ولكن يصاب الطفل بالهياج أو النعاس أو نقص الشهية أو التعب أو الإقياء وربما الاختلاجات. وهذا الشكل من الأعراض في الولدان والرضّع يحتاج إلى تعليق خاص. فكثيراً ما يستغرب الأهل قيام الطبيب بإجراء اختبارات عديدة وربما تكون مخيفة للأهل وخصوصاً ما يدعى (البزل القطني) حيث يقوم الطبيب بإدخال إبرة في العمود الفقري للطفل للحصول على السائل الدماغي الشوكي لفحصه ثم زرعه. إن علينا أن نعلم أن الطبيب يقوم بهذه الاختبارات في الولدان والرضّع لأن أعراض التهاب السحايا كثيراً ما تكون غامضة ولا نوعية في هذه الأعمار وإن الفحص السريري قد يقود لنتائج تشخيصيّة مضللة وبالتالي فإن الفحوص المخبرية هي الطريق الوحيد للحصول على نتائج دقيقة. وعلى الرغم من أن هذه الفحوص قد تكون مزعجة للأهل مثل فحص الدم وفحص البول وصورة الصدر والبزل القطني فإنها دون شك قد تكون منقذة للحياة. وفي وليد أو رضيع مصاب بارتفاع  الحرارة ونقص الشهية وبعض الأعراض الأخرى فإن إجراء هذه الفحوص يكون ضرورياً، وقد يكون من المفاجئ للأهل أن يعرفوا أنه في أكثر من 99% من الحالات فإن نتائج الفحوص المخبرية تكون سلبية، أي أن الطفل لا يكون مصاباً بالتهاب السحايا ولا إنتان الدم ولا الإنتان البولي بل إن الأعراض تكون بكل بساطة ناجمة عن فيروس بسيط مشابه في أعراضه للإنفلونزا.  ومع ذلك فإن كون النتائج إيجابية في أقل من 1% من الحالات (أي وجود التهاب السحايا أو أنتان الدم وغيرهما) يجعل كل هذه الفحوص المخبرية ضرورية في ر أي الأخصائيين لأن اكتشاف المرض يكون منقذاً للحياة. علماً بأن الطبيب يبدأ  المعالجة بالمضادات الحيوية فوراً ولا ينتظر عودة  النتائج. فإذا كانت  النتائج سلبية بعد 48 ساعة قام الطبيب المعالج بإيقاف المضادات الحيوية. إن المعالجة الفورية في حال الشك (حتى الشك) بالتهاب السحايا الجرثومي هي أمر هام وقد يكون منقذاً للحياة فعلاً.


 


الزراعة الجرثومية


كما ذكرنا فإن التشخيص يقوم على فحص وزراعة  السائل الدماغي الشوكي. فهنالك علامات تشاهد فوراً بالفحص السريع لهذا  السائل وتوحي بالالتهاب الجرثومي أو الفيروسي. وكذلك فإن الزراعة لا تحدد الجرثوم فقط بل تحدد أيضاً المضاد الحيوي الفعّال في معالجته. وهكذا فإن الطبيب يبدأ بالأدوية ذات  الطيف الواسع والتي يتوقع منها أن تقتل معظم الجراثيم في عمر معيّن، وبعد أن تظهر النتائج النهائية للزراعة فإنه يقوم بإيقاف المعالجة في حال كون الفحوص سلبية أو يغيّر المضاد الحيوي في حال وجود جراثيم تعنو لنوع آخر من المضادات الحيوية. وربما لجأ الطبيب أيضاً لإعطاء أدوية أخرى مثل (الكورتيزون) كعلاج يضاف إلى المضادات الحيوية في بعض الحالات.


 


 


هل هو داء معدٍ؟


 


لا شك في أن التهاب السحايا هو من الأمراض المعدية. حيث تنتقل الجراثيم عن طريق الجهاز التنفسي (بالسعال والتقبيل وغيرها). ولحسن الحظ فإن الجراثيم التي تؤدي لالتهاب السحايا ليست سريعة  الانتقال كما هو الحال في الزكام والإنفلونزا وغيرها بل تحتاج لتماس لفترة طويلة مع المريض المصاب . ومن الجراثيم التي تعرف بانتقالها بين الأطفال (في المدارس وغيرها) ما يدعى (النيسريات السحائية) ويقوم الطبيب بإعطاء بعض المضادات الحيوية للأشخاص الذين تعرّضوا للمصاب لفترة كافية وذلك لمنع حصول  المرض.


 


 


اللقاحات


 


لقد قامت اللقاحات المضادة للجراثيم المؤدية لالتهاب السحايا بدور كبير جداً في إنقاص حصول المرض. والإحصائيات المتعلّقة بالجراثيم المسماة  المستدميات النزلية معروفة لدى الأطباء حيث أنّها غيّرت النسب التي كانت التهابات  السحايا تحصل وفقاً لها من حيث التوزع الجرثومي. وأيضاً ومنذ عام 2000 بدئ باستخدام لقاح المكوّرات الرئوية مما أنقص من عدد الإصابات التي كانت تحصل بسبب هذا الجرثوم. وأيضاً فإن هنالك لقاحات ضد ما يسمى (النيسريات السحائية) وبالنسبة لهذا اللقاح الأخير فإنه لا يعطى بشكل روتيني في الولايات المتحدة وإن كان يعطى للأشخاص المسافرين إلى البلاد التي يكثر فيها حصول هذه الإصابة وخصوصاً بلدان الشرق الأوسط. إن استخدام هذه اللقاحات أنقص حصول المرض بشكل كبير في الولايات المتحدة الأمريكية وجعل التهاب السحايا مرضاً أقل حصولاً في دول العالم الغربي على العموم. وأما في دول الشرق الأوسط فإن اللقاح متوفر فيها ولكن المشكلة هو أن  استخدامه لا يتم من خلال خطط ثابتة تقوم بها الحكومات ووزارات الصحة كما أن الإحصاءات بشأن الاستخدام والنتائج ليست دقيقة في أحسن الأحوال بل إنها غير موجودة مطلقاً في بعض الدول. وتحاول منظمة الصحة العالمية أن تأخذ دوراً معيّناً يحل محل دور الحكومات في دول العالم الثالث فيما يتعلّق بتوفير اللقاحات وإجراء الدراسات والاستنتاجات التي تفيد في الخطط المستقبلية للأمراض الإنتانية على العموم.


 


وأخيراً


 


إن التهاب السحايا هو من الأمراض ذات الأهمية الخاصة في طب الأطفال وإذا كانت صعوبتها ناتجة في الماضي عن كثرة مواجهتها وصعوبة علاجها فإن صعوبتها الأساسية  اليوم ناجمة عن قلة حدوثها نتيجة للاستخدام الواسع للقاحات مما يتطلّب حذراً مستمراً من قبل الطبيب بحثاً عن هذا المرض المخاتل الذي قد يكون قاتلاً إذا لم تتم معالجته بشكل فوري وحاسم، وهنا تكمن المفارقة… مفارقة التقدم في الطب الحديث


 


 


Close Menu