أنا لا أحب الدواء!!

 


 


 


أنا لا أحب الدواء!!


 


 


أنا لا أتكلّم هنا بلسان حال كل طفل. فالأطفال كما نعرف جميعاً لا يحبون الدواء إلاّ فيما ندر. ويعاني الأهل دائماً عندما يحاولون أن يعطوهم جرعة من الدواء الموصوف لهم.  وتتفنن معامل الأدوية في إعطاء نكهات مختلفة مقبولة الطعم بالنسبة للطفل، ومع ذلك يظل رفض الطفل لتناول دوائه معاناة مستمرة  للأطباء والأهل.


 


 حديثنا اليوم عن أمر مختلف تماماً، وما أثاره لديّ هو تناقضات تحصل خلال التعامل اليومي مع أهالي الأطفال.


 


 القاعدة العامة أن معظم الأهل يطلبون الأدوية لمعالجة أطفالهم. فقد يكون الطفل مصاباً بالزكام البسيط الذي تسببه الفيروسات، ويطلب الأهل مع ذلك من الطبيب أن يقوم بإعطاء أطفالهم المضادات الحيوية، ويعاني الطبيب ما يعاني لإقناع الأهل بالتخلّي عن مطلبهم هذا، شارحاً أن الفيروسات لا تعالج بالمضادات الحيوية، وأن هذه الأخيرة إنما هي مخصصة لمعالجة الإنتانات الجرثومية. هذا الوجه الأوّل للعملة وهو الأمر الذي يقضي طبيب الأطفال وقتاً طويلاً للتعامل معه كل يوم. إلاّ أن هنالك وجهاً آخر للعملة أحب أن أتحدث عنه اليوم.


 


الوجه الآخر


 


بعد أن قمت بفحص الطفل وتأكدت من إصابته بالتهاب الأذن الوسطى قلت للأم إنني سأقوم بإعطائه المضادات الحيوية وطلبت منها أن تعود بعد أسبوع لأقوم بمعاينة الأذنين من جديد.


 


 قالت لي الأم بأدب جم: دكتور… ألا تلاحظ أننا في الشهر الماضي قمنا بإعطاء (عادل) المضادات الحيوية … ثم ها نحن ذا نكرر هذا الأمر اليوم؟ ألا تعتقد أن هذا سيؤذي صحّته؟ أنا أقول لك ذلك  لسبب بسيط … أنا لا أحب الدواء!!


 


 قلت لها: صدفة غريبة…. ! وأنا لا أحب الدواء أيضاً!!


 


 قالت: كيف وعملك كله قائم على المعالجة بالأدوية؟


 


 قلت: طبعاً  الأدوية تشكل جزءاً كبيراً من عملي كل يوم…. ولكن عملي ليس قائماً على الأدوية…! عملي يقوم على التشخيص والوقاية وزيادة معلومات الأهل …. و العلاج. والعلاج ليس كله دواءً. وهكذا تلاحظين أن الدواء هو جزء من أحد أجزاء عمل  الطبيب ولا يمكن اختصار هذا العمل بالدواء.


 


قالت: فإذا كان ذلك كذلك، فلماذا تقوم بوصف المضادات الحيوية لــ (عادل) اليوم؟ أليس صحيحاً أن الأدوية تؤذي جسمه؟


 


حديث يطول


 


هذا السؤال سؤال هام ولا شك. ولكن جوابه لا يمكن أن يكون مختصراً. ولا بد من أن نبدأ هذا الحديث بكلمة هامة أؤكد عليها كل يوم وأضع تحتها عدة أسطر. إن استخدام الدواء لا بد من أن يكون له سبب، وسبب وجيه أيضاً. أي أن إعطاء الدواء بشكل عشوائي على مبدأ (الفن للفن) هو أمر مرفوض ولا أظن أن أي شخص لديه أية معرفة طبية يمكن أن يوافق عليه. وكما ذكرت سابقاً، فإن أي طبيب أطفال يمضي جزءاً هاماً من يوم عمله يحاول أن يقنع الأهل بعدم طلب الأدوية غير الضرورية لأطفالهم وأهم هذه الأدوية  المضادات الحيوية. ولكن هنالك حالات أخرى يكون فيها الدواء ضرورياً ولا يمكن الاستغناء عنه. ويمكن أن نذكر مثالاً واضحاً وبسيطاً على هذا الأمر.


 



 


مثال بسيط


 


لنفرض أن والد و والدة طفل مصاب بالداء السكري على سبيل المثال حملا مبدأ أن الدواء ضار للجسم وبالتالي رفضا أن يعطيا طفلهما دواء الإنسولين. ماذا يمكن أن نتصوّر أن يحصل للطفل؟


 


الجواب سيكون مؤلماً بالطبع. وإذا قام هذان الوالدان بإعطاء حقن الإنسولين لطفلهما كل يوم صباحاً ومساءً، فهل عليهما أن يشعرا بالذنب مرّتين؟ مرّة لأنهما يقومان بغرز الإبرة في جسد طفلهما الصغير، ومرة أخرى لأنهما يقومان بإعطاء الطفل دواءً يدعى الإنسولين. متبعين قاعدة فلسفية نصّها أن كل دواء هو ضارّ … وأن الإنسولين هو دواء فالإنسولين ضارّ؟!


 


غير مقبول


 


طبعاً فلسفة كهذه لا يمكن أن تكون مقبولة بأي حال من الأحوال. وإلاّ فماذا على الأهل أن يشعروا حين يضعون طفلهم أمانة بين يدي الجرّاح ليقوم بفتح بطن طفلهم وإخراج الزائدة  الدودية الملتهبة منه؟ أليس فتح بطن الطفل أمراً مخيفاً؟ ولكن الأمر الذي يمنعهم من الشعور بالذنب هو أمر بسيط، وهو أن فتح بطن الطفل جراحياً ــ إضافة إلى كونه مخيفاً ــ يتمتع بصفة أخرى في حالة التهاب الزائدة الدودية لا يمكن أن نغض الطرف عنها هو أنه …… ضروريّ!


 


 


تأثيرات جانبية


 


عندما نتكلّم عن الضرر الحاصل من إعطاء الدواء فأنا أفضل أن أستبدل بكلمة الضرر تعبيراً آخر  أكثر ملاءمة في سياق الحديث عن موضوع طبي. هذا التعبير هو (التأثير الجانبي).


 


 وعليه فبإمكاننا أن نسأل. هل للأدوية تأثيرات جانبية؟


 


 والجواب هو نعم بطبيعة الحال. فإن مطالعة النشرة الطبية لأي دواء تظهر أن استخدامات الدواء تشغل بضعة سطور، بينما تشغل التأثيرات الجانبية والمضاعفات سطوراً أكثر بكثير من هذا، ومع ذلك فشركات الدواء لا تزال تقوم بالتصنيع والإنتاج. لماذا؟


 


 لأن استخدام الدواء تابع لمعادلة يزنها الطبيب في عقله في كل مرة يمسك فيها القلم ويكتب وصفة دوائية.


 


 


 المعادلة


 


بدءأ من أبسط دواء خافض للحرارة، وانتهاءً بأعقد المعالجات الكيميائية للسرطانات، فإن لكل دواء فوائد وتأثيرات جانبية، والقاعدة التي يضعها الطبيب نصب عينيه هي أنه لا يمكن أن يصف دواءً لمريضه إلاّ إذا كانت فوائده ــ عند هذا المريض تحديداً ــ أكثر من تأثيراته الجانبية.


 


وفي حال كانت هذه المعادلة مقلوبة، فإنه لا يمكن أن يصف هذا الدواء مطلقاً. وفي حقيقة الأمر فإننا إذا تجنبنا استخدام الأدوية لأن لها تأثيرا ت جانبية، فإننا لن نستخدم أي دواء على الإطلاق!


 


 ماذا سنعطي؟


 


 الأسيتامينوفين خافض الحرارة؟ هو قد يؤذي الكبد بجرعاته العالية.


 


 الأيبوبروفين؟ يمكن أن يؤذي المعدة ويؤدي إلى التهابها وحتى إصابتها بالتقرّح.


 


 ولكن في حقيقة الأمر فإن هذين الدوائين يوصفان من قبل الأطباء ملايين المرات كل يوم. ولا يرى أحد في ذلك أي خطأ. لأن الطبيب عندما يصفهما يضع هذه القاعدة  الذهبية في ذهنه.


 


التهاب الأذن الوسطى


 


ونعود إلى مثال التهاب الأذن الوسطى تحديداً، فإن الطفل المصاب به لا بد من أن تتم معالجته. صحيح أن حوالي 25% من المصابين بهذه المشكلة يشفون وحدهم دون دواء، ولكن هذا الأمر لا يمكن أن يركن إليه لأسباب عديدة أوّلها أن الألم الناجم عن هذه المشكلة لا يمكن أن يحمله الطفل، وثانيها أن ترك الالتهاب يؤدي إلى تفاقم التقيّح في الأذن المصابة مما يؤدي إلى الأذى في النهاية. وفي كلتا الحالتين فإن أضرار الدواء ــ المضاد الحيوي في هذه الحالة ــ هي أقل من الفوائد المرجوّة منه والتي تتجلّى بالشفاء وإزالة القيح من الأذن وتجنب تراكم السوائل فيها والذي قد يؤدي إلى إصابتها بنقص السمع. وفي كل مرة يصاب فيها الطفل بالتهاب الأذن الوسطى، فلا بد من إعطاء المضاد الحيوي، سواء كنا نحب المضادات الحيوية أم نكرهها! على أننا في حال تكرر الإصابة بالتهاب الأذن الوسطى نبحث ــ بالتعاون مع الأخصائي بأمراض الأذن ــ عن حلول لتجنب هذا التكرار ومنها وضع  الأنابيب في الأذنين، وهذا أمر كنا قد تطرّقنا له منذ سنوات في حديث سابق.


 


 


 


الاعتدال


 


قاعدتنا في الطب دائماً ــ كما هي في الحياة أيضاً ــ هي أن خير الأمور الوسط. المبالغة في إعطاء الأدوية في حال عدم وجود ضرورة لها هي أمر مؤذٍ، كما أن المبالغة في رفضها هي أمر مؤذٍ أيضاً. وإن التوازن ــ إذا كان مطلوباً في جميع مناحي الحياة ــ فإنه في الطب أمر ضروري وأساس ولا غنى عنه. بدءاً بتغذية الطفل ومروراً بالعناية به والخوف على صحته ولا ينتهي الأمر بمناقشة خطة المعالجة المطلوبة بالنسبة له.


 


 سؤال


 


ما رأيك الآن يا سيّدتي؟ هل مازلت عند قولك؟ هل نقوم بإعطاء المضادات الحيوية اليوم لعادل، أم نترك أذنه الملتهبة وشأنها؟ ألا تزالين تخافين من التأثيرات الجانبية للمضادات الحيوية، أم أن مضاعفات التهاب الأذن الوسطى تخيفك أكثر؟ سؤال برسم الإجابة، والكرة الآن في ملعبك! 


 


 


 

Close Menu