ماهو الداء السكري؟

 


ماهو الداء السكري؟


منذ أشهر طويلة نشرنا في (الحدث) مقالاً بعنوان (الداء السكري … قصة المرض الذي اكتشفه النمل). ومنذ ذلك الحين تلقيت تعليقات عديدة على هذا المقال. وكانت هذه التعليقات الإيجابية مترافقة بشكل مستمر مع طلب يتلخّص في أن المقال شرح (تاريخ) هذا المرض الهام، ولكن من المهم أيضاً ــ في رأي من قدموا لنا تعليقاتهم من القراء ــ أن تتم كتابة مقال يتحدث عن المرض نفسه، أسبابه وعلاجه ومضاعفاته وما إلى ذلك.


 


وبطبيعة الحال، فهذا الموضع بالغ الأهمية ولا بد من الحديث عنه. وقد اخترناه موضوعاً لمقالنا اليوم.


 


تفريق لا بد منه


عندما نتحدّث عن الداء السكري فلا بد من التفريق بين نوعين منه. النوع الأوّل هو السكري من النموذج(1) والنوع الثاني هو السكري من النموذج(2). إن 90% من المصابين بالداء السكري في العالم يعانون من النموذج(2) وما تبقى يعانون من النموذج(1). ومن المعروف أن الداء السكري لدى الأطفال يكون في معظمه من النموذج (1). ولكن هنالك حالات كثيرة الآن تشخص لدى الأطفال من النموذج(2). وفي الماضي كان النموذج(1) يدعى السكري الشبابي والنموذج(2) يدعى نموذج البالغين. ولكن هذه التسمية ليست علمية إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الأطفال قد يصابون أيضاً بالنموذج (2). وسنحاول في هذا المقال بجزئيه أن نلقي الضوء على الداء السكري على العموم  نبدأ أوّلاً بالنموذج(2) لشيوعه الكبير ثم نتكلّم عن النموذج(1) في الجزء الثاني من المقال. ولا بد من أن نذكر هنا أنواعاً من الداء السكري لن نتطرّق إليها كالسكري الثانوي والسكري الحملي. 


 


السكري من النموذج (2)


 


إن السكري من النموذج(2) هو داء مزمن لا تستطيع فيه غدة (البنكرياس) أن تفرز كميات كافية من هرمون الإنسولين المسؤول عن استقلاب السكر في الجسم ، أو أن خلايا الجسم تصبح مقاومة لهذا الهرمون. إن الإنسولين يسهّل دخول السكر (الغلوكوز) إلى الخلية، وهناك يتم استخدام هذا السكر كمصدر رئيس للطاقة. كما أن الهرمون يساعد على خزن السكر في العضلات والشحم وخلايا الكبد. وهذا السكر المخزون يتم استخدامه كمصدر للطاقة حين الحاجة.


 وفي حال نقص الإنسولين أو وجود مقاومة له، فإن مستوى السكر (الغلوكوز) في الدم يرتفع إلى مستوى عالٍ وضار. وفي حالة النموذج(2) فإن ارتفاع السكر يكون تدريجياً وقد يأخذ الأمر سنوات قبل أن يصل مستواه إلى المستوى الضار. وإذا بقي مستوى السكر عالياً لسنوات طويلة فإن هذا سيؤدي إلى أذية في الأوعية الدموية والأعصاب مما يؤدي إلى خطر الإصابة بأذية عينية (شبكية خصوصاً) وقلبية وكلوية.


 ويمكن لهذا المرض أن يحصل في أي عمر، وإن كان غالباً ما يحصل في الكبار كما ذكرنا. ولما كان من الممكن علاج هذا المرض بأدوية أخرى غير الإنسولين فربما يطلق عليه أحياناً (الداء السكري غير المعتمد على الإنسولين). ولربما اعتقد بعض الناس خطأ ً أن الداء السكري من النموذج(2) هو شكل خفيف من الداء السكري. ولكن هذا غير صحيح بطبيعة الحال فإن جميع التأثيرات والمضاعفات الناجمة عن النموذج (1) يمكن أن تنجم عن النموذج(2) أيضاً. أما السبب في النموذج(2) فهو مقاومة الخلايا لهرمون الإنسولين مما يدعو البنكرياس لزيادة إفرازه منه. كما أن الكبد يقوم بتحرير كميات إضافية من الغلوكوز ليتم استخدامه من قبل الخلية. ومع تقدم الأيام يفقد البنكرياس قدرته تدريجياً على إفراز الإنسولين الكافي كما تتزايد مقاومة النسج للإنسولين مما يؤدي لحصول الداء السكري من النموذج (2).


 


ما هي أعراض النموذج(2)؟


    إن أهم أعراض هذا المرض هي العطش الزائد وزيادة عدد مرات التبوّل وزيادة الجوع ونقص وزن غير طبيعي وتعب مفرط وتهيّج. وربما كانت هذه الأعراض خفيفة بحيث يكون المرض موجوداً لدى الإنسان لسنوات دون أن يشعر بوجوده ودون أن يتم تشخيصه. وربما تم كشف المرض خلال الفحوص الدورية أو خلال المعاينة من أجل مرض آخر كارتفاع التوتر الشرياني، أو الأنتانات المتكررة أو بطء شفاء الجروح. لأن هذه الأمراض والأعراض تترافق أيضاً مع هذا الداء. وفي بعض الأحيان لا يتم اكتشاف المرض قبل ظهور مضاعفاته كالمشاكل البصرية والعصبية والكلوية. علماً بأن هذا المرض شائع جداً في الولايات المتحدة الأمريكية ويقدر عدد المصابين به بـ 16 مليون مريض.


 


عوامل الخطر


إن السؤال المهم والذي يطرح كثيراً هو عن العوامل التي تجعل الإنسان على خطر للإصابة بهذا الداء. وكما ذكرنا فإن أحد العوامل هو العمر حيث أن هذا الشكل من المرض أشيع في الكبار منه في الصغار. ولكن بعض الأطفال يصابون به أيضاً مما يجعل العمر أحد العوامل فقط.


 والعوامل الأخرى تشمل السمنة ونقص التمارين والنشاط الفيزيائي. ويضاف إلى ذلك أن هنالك أناساً تكون لديهم مستويات السكر في مرحلة ندعوها (قبل سكرية) أي أنها على الحدود، وهؤلاء معرّضون للإصابة بالداء السكري في مرحلة ما من حياتهم. ومما يزيد الخطر وجود أحد أقرباء الدرجة الأولى المصابين بهذا المرض كالأب والأم والأخ والأخت. ويزيد حصول المرض لدى الزنوج واللاتينيين والهنود الحمر. وكذلك فإن اللاتي يصبن بالداء السكري الحملي لديهن خطر للإصابة بالنموذج (2) من هذا المرض. ويزيد احتمال حصول المرض في حال وجود ارتفاع الكولسترول وارتفاع الضغط الشرياني.


  


هل ثمة من وقاية؟


 


إن الذين لديهم عوامل الخطر التي ذكرناها آنفاً يمكن أن يمنعوا (أو يؤخروا) حصول المرض لديهم من خلال ممارسة التمارين الرياضية، وتناول غذاء متوازن يقوم بتوزيع النشويات (الكربوهيدرات) في الغذاء على مدار اليوم. كما أن إنقاص الوزن بالحمية الملائمة يلعب دوراً في هذا لأنه ينقص مقاومة الخلايا للإنسولين ويجعل الجسم يستخدم الإنسولين بفعالية أكبر. ويساعد في هذا أيضاً ترك التدخين ومعالجة ارتفاع الضغط الدموي.


 


كيف يعالج النموذج(2)


إن أحد أهم وسائل المعالجة هو إنقاص الوزن واتباع حمية غذائية تقوم بتوزيع كميات من الكربوهيدرات على مدار اليوم وممارسة التمارين وقياس مستوى السكر (الغلوكوز) في الدم بشكل منتظم، وفي حال عدم كفاية هذه الوسائل لخفض سكر الدم يلجأ الطبيب إلى إعطاء بعض الأدوية الفموية. إن أحد أهم الفروق بين النموذج(2) والنموذج(1) هو إمكانية استخدام الأدوية الفموية في (2) وهي تزيد من إفراز الإنسولين من البنكرياس، كما أن بعضها ينقص من مقاومة الخلايا للإنسولين ويقوم بإدخال الغلوكوز إلى داخل الخلية. إن تطوّر المعالجات ووسائل الاختبار جعل السيطرة على هذا المرض أفضل بكثير من السابق، وبالتالي فإن المصابين بهذا الداء يمكن أن يعيشوا حياة ً مديدة سعيدة وأن يتمتعوا بصحة جيدة طالما أنهم يتبعون نصائح الطبيب من حيث الحمية والتمارين وأخذ الأدوية الملائمة.


 


ما هو السكري من النموذج (1)؟


إن هذا النوع من الداء السكري هو داء مزمن، يستمر مدى الحياة، وهو يحصل عندما تتوقف غدة البنكرياس عن إفراز هرمون الإنسولين. وهذا الهرمون ــ كما ذكرنا في العدد الماضي ــ هو الذي يضطلع بوظيفة تسهيل إدخال الغلوكوز (السكر) إلى الخلية الجسمية حيث يتم استخدامه لإنتاج الطاقة.


 وعندما ينعدم الإنسولين في الجسم فإن السكر يظل في الدم وترتفع مستوياته فيه فوق المستويات الطبيعية وتصل إلى الدرجة الضارة. فإذا وصل السكرالدموي إلى مستويات عالية جداً حصل ما يسمى (الحماض الكيتوني السكري)، وفي هذه الحالة الخطرة تتراكم مادة الكيتون في الجسم ويحصل ما يدعى بالحماض  وهذا الأمر له مضاعفات عديدة جداً قد تكون قاتلة إذا لم يتم إسعاف المريض وقبوله إلى المستشفى.


وكما ذكرنا في الجزء الأوّل، فإن استمرار ارتفاع السكر في الدم لفترة طويلة يؤدي إلى تأذي الأوعية الدموية والأعصاب في كامل أنحاء الجسم مما يؤدي إلى مضاعفات عينية وكلوية ووعائية وعصبية وغير ذلك.


 إن الداء السكري من النموذج(1) يمكن أن يحصل في أي عمر ولكنه أشيع في الأطفال والشبان، وهذا هو السبب في أنه كان يدعى (الداء السكري الشبابي) وهي تسمية غير علمية توقف الأطباء والمؤلفون عن استخدمها اليوم. وربما كان من الأفضل أن ندعوه (الداء السكري المعتمد على الإنسولين) وذلك لأن مستويات الإنسولين تكون معدومة فيه تماماً مما يجعل المريض معتمداً على الجرعات الإنسولينية الدوائية، بعكس النموذج(2) الذي يمكن في البداية معالجته بالحمية ثم بالأدوية الرافعة للإنسولين وإن كان في كثير من الأحيان يصبح معتمداً على الإنسولين في النهاية.


 


ما هي الأسباب؟


إن السبب المتعارف عليه بين العلماء لهذا المرض هو السبب المناعي الذاتي. ومعنى ذلك أن الجسم يتعامل مع بعض خلاياه على أنها خلايا غريبة. مما يحدو به إلى الإيعاز إلى جهازه المناعي لتحطيم هذه الخلايا. وفي هذا المرض فإن الخلايا الضحية تكون الخلايا المفرزة للإنسولين في البنكرياس (وهي تدعى الخلايا بيتا) وينعدم بالتالي إفراز الإنسولين مما يؤدي إلى حصول الداء السكري بكامل صورته المعروفة. أما سبب حصول هذا التفاعل المناعي الذاتي فأمر مجهول ويحتاج إلى دراسات إضافية لإيضاحه.  ولكن من المعروف أن بعض الناس يحملون في مورثاتهم القابلية لحصول هذا المرض.ومن الجدير بالذكر أنه حتى في أولئك المستعدين وراثياً للمرض فإن الداء لا يحصل إلا بوجود عوامل بيئية معينة كالتعرض لأنواع معينة من الفيروسات.


 


أعراض المرض


إن أعراض الداء السكري تتشابه في النموذجين (1) و(2). ومنها السهاف(أي العطش الزائد) وتكرار التبوّل ونقص الوزن وربما زيادة الشهية. وفي النموذج(1) فإن هذا الأعراض قد تتطوّر بسرعة خلال أيام قليلة إلى أسابيع. وليس من غير الشائع أن يعاني المريض في البداية من أعراض داء فيروسي بسيط كالإنفلونزا وغيرها ويظن المريض وأهله أن الأعراض التي يعاني منها ناجمة عن هذا الفيروس فلا يطلب المعالجة من طبيبه. وربما أصبحت مستويات السكر لهذا السبب عالية جداً وهذا الأمر تنجم عنه أعراض معينة منها جفاف الجلد وارتفاع حرارته واحمراره، ونقص الشهية والإقياء والألم البطني وربما حصل تسرع للتنفس مع رائحة نـَفـَس خاصة تشبه رائحة الفاكهة. وقد يتطوّر الأمر في حالاته الشديدة إلى الانزعاج ثم النعاس ثم الاضطراب وربما السبات. وفي تلك الحالات يصبح الأمر إسعافياً. ويقتضي قبول المريض إلى المستشفى لعدة أيام لمعالجة هذا الارتفاع الشديد في السكر ووضع المريض على نظام علاجي دوائي غذائي يجنبه حصول هذا الارتفاع في المستقبل. 


عوامل الخطر


إن هنالك عوامل وراثية ظاهرة في الداء السكري من النموذج(1) كما ذكرنا أعلاه. فوجود أقرباء من الدرجة الأولى كالأب والأم والاخ والأخت … مصابين بهذا المرض يرفع نسبة حصوله لدى الإنسان. ولكن من المعروف أن معظم الناس المصابين بهذا المرض ليس لديهم أقارب مصابون.


ومن العوامل الأخرى التي تزيد الخطر وجود ما يدعى (أضداد الخلايا بيتا) أو (خلايا جزر لانغرهانس) في الدم. ويأتي هذا الاسم من كون الخلايا المفرزة للإنسولين تتجمع في البنكرياس على شكل (جُـزُر) تسمى (جزر لانغرهانس). إن وجود هذه الأضداد في الدم يعني أن هذا الخلايا المتجمعة في جزر بنكرياسية هي معرضة للتحطم في أي وقت وأن هذا المريض معرّض للإصابة بالداء بالتالي في أي وقت.


 وهنالك جدل معيّن حول دور أنواع خاصة من الفيروسات في حصول الداء، حيث توجد فيروسات تسمى (الفيروسات المعوية) ولا سيما ذلك المدعو (فيروس كوكساكي ب) وقد تحدثت بعض الأبحاث عن دورها في حصول المرض.


 كذلك فإن من الآراء العلمية ذات الأرضية المقبولة هو أن إرضاع الطفل من قبل الأم لأكثر من ثلاثة أشهر بعد الولادة ينقص احتمال الإصابة بهذا المرض. وبطبيعة الحال، فإن الأمر عندما يتعلّق بمرض مثير للجدل كالداء السكري من النموذج(1) فإن هنالك مجالاً كبيراً للفرضيات والنظريات التي لا نذكرها هنا لحاجتها لمزيد من الأبحاث والأدلة العلمية.


هل من وقاية؟


في الوقت الحالي لا توجد طريقة للوقاية من الداء السكري من النموذج(1). ولكن الوقاية تتركز على منع المضاعفات بعد حصول المرض. والأمر الأهم هو المواظبة على أخذ حقن الإنسولين بالشكل الذي يصفه الطبيب مع متابعة مستوى السكر بالدم بشكل منتظم ، ذلك أن التحكم الجيد بمستويات السكر في الدم يؤخر أذية الأوعية و يؤخر بالتالي حصول الأذية العصبية والكلوية والقلبية والعينية وغير ذلك.


المعالجة


إن معالجة الداء السكري من النموذج(1) تركز على المحافظة على مستوى طبيعي من السكر في الدم. وتتضمن المعالجة اتباع حمية ملائمة يضعها الطبيب لمريضه تعتمد على توزيع كميات الكربوهيدرات (النشويات) بشكل جيد على مدار اليوم ثم أخذ حقن الإنسولين بانتظام وبالجرعات المناسبة، ومراقبة سكر الدم مع ممارسة التمارين بشكل منتظم.


 ويتم إجراء تعديلات على المعالجة وعلى الجرعات الدوائية ــ زيادة ونقصاً ــ تبعاً للنتائج التي يتم الحصول عليها ويقوم الطبيب بإجراء هذه التعديلات. وفي حالات خاصة فقد يقوم بعض الاطباء بزرع الخلايا (بيتا) التي تنتج الإنسولين، وهذا ما يدعوه البعض زرع البنكرياس. وهذا النوع من العمليات يتم في بعض مراكز البحوث الخاصة، وهي تحتاج لمتابعة معينة مع تناول أدوية لمنع رفض هذا العضو من قبل الجسم. ويرى بعض العلماء في هذا النوع من الجراحات أملاً مستقبلياً للقضاء على الداء السكري بحيث تغني هذه الجراحة عن حقن الإنسولين المتكررة. ولكن الواقع يقول إن هنالك سنوات طويلة قبل أن يصبح الأمر بهذه البساطة.


 


الأمل دائماً


إن المصابين بالداء السكري من النموذج(1) يمكن أن يعيشوا حياة طويلة سعيدة ويتمتعوا بصحة جيدة في حال التحكم الملائم بمستوى السكر في الدم. إن المشاركة الصحيحة بين المعالجة الدوائية والحمية الملائمة والتمارين المناسبة تعطي نتائج ممتازة جداً وتجعل حياة المريض أقرب ما تكون إلى الحياة الطبيعية.وكما هو الحال في جميع الأمراض المزمنة فإن الإرادة القوية والعزيمة والإصرار واتباع التوصيات الطبية يؤدي إلى تحسن مستوى الحياة والحصول على أفضل النتائج. وكثيراً ما نسأل  من قبل أهالي مرضانا عن وجود علاج حاسم ينهي هذا المرض ويؤدي إلى عدم الحاجة لحقن الإنسولين. وكجوابنا على أي سؤال يتعلق بداء مزمن طويل الأمد … نقول لهم: إن الأبحاث مستمرة والجهود العلمية متواصلة و الأمل بالله موجود دائماً.     


 

Close Menu