التــَخلية قبل التــَحلية!!

 


                                        


التــَخلية قبل التــَحلية!!


 


تردنا إلى صفحتنا الطبية في صحيفة (الحدث) كثير من التعليقات الجميلة والمؤثرة. منها ما يصل بالبريد، ومنها مايأتي عن طريق الهاتف، ومنها ما يتم إرساله بالبريد الإلكتروني، ثم منها ــ وهي الأغلى والأحلى ــ ما يصل مشافهةً من خلال القراء و أهل المرضى سواءً في العيادة أو في أمكنة الاجتماع الأخرى من حفلات ولقاءات.


 


 كل هذه التعليقات والإطراءات عزيزة على قلوبنا، ونعتبرها الرصيد الأهم والحافز الذي يدفعنا إلى الاستمرار. ولا بد من أن نذكر هنا سؤالاً يتردد كثيراً من قبل العديد من الأمهات والآباء. ويتلخص هذا السؤال ــ أو الاستفسار ــ في أن كثيراً من المعلومات التي نذكرها تتعارضُ مع ما لدى الأهل من معلومات سابقة تعلّموها في بلادنا سواءً من الجدات أو الأقرباء أو حتى من بعض الأطباء الذين مارسوا الطب لسنواتٍ بل لعقودٍ طويلة.


 


 وهذا الاستفسار بالنسبة لنا في الصفحة الطبية يحمل أهمية خاصة. فعلى الرغم من أنه قد يبدو ــ ظاهرياً ــ وكأنه نوع من الانتقاد أو الاعتراض، فإنه ــ في حقيقة أمره ــ من أفضل أنواع الإطراء التي يمكن أن تصل إلى كاتب يبحث مواضيع متعلّقة بالأمور العلمية. عندما يرد هذا السؤال في أية محاورة مع أهل المرضى أو القراء على وجه العموم، فإن جوابي يتلخص في قولي إن الأمر راجع إلى مبدأ ثابت اتبعه العلماء منذ قديم الزمن  عند محاولتهم الوصول إلى الحقيقة في أي علم من العلوم أو باب من أبواب المعرفة. وهذا المبدأ يتلخص في ثلاث كلمات: (التخلية قبل التحلية)!!


 


شرحٌ لا بد منه


 


عندما أذكر عبارة (التخلية قبل التحلية). تفغر الأفواه وتنظر العيون نظرة تساؤل: ماهو المقصود بهذه العبارة؟ وأقول عادةً إن العبارة مبدؤها بسيط، ويبدو أن الجناس فيها قد ورد عفواً ولم يكن أمراً متكلّفاً. وشرحها هو كما يلي: عندما يكون لديّ وعاء فيه طعام فاسد أو غير مرغوب به، وأريد أن أملأ هذا الوعاء بالحلوى اللذيذة، فإن من المنطقي أن أقوم أوّلاً بإفراغ وعائي من الطعام غير المرغوب به ثم غسله قبل أن أملأه بالحلوى. أي أن علي أن أقوم بالإفراغ (التخلية) قبل ملءِ الوعاء بالحلوى (التحلية)!


 


 ولقد كان العلماء ومايزالون يتبعون هذا المبدأ (سواءً ذكروه بحرفيّته أو لم يذكروه) عندما يتعلّمون علومهم بقصد إتقانها. فقبل أن يبدأ طالب العلم بالتعلّم يطلب منه أستاذه أن  يتخلّص مما علق بذهنه من مفاهيم خاطئة بشأن فرع معيّن من العلوم حتى يكون تعلّمه صافياً والعلم الذي يكتسبه نقياً.  وإذا أردنا أن نطبّق هذا المبدأ على العلم الطبي ــ وعلى مقالاتنا بالذات ــ فلا بد من أن نقول: إن من أهم دوافعنا لكتابة هذه المواضيع الطبية هو علمنا اليقيني بأن الكثير من الناس قد توارثوا مفاهيم متعلّقة بصحة أطفالهم، وأن الكثير من هذه المفاهيم قد تغيّر، وأن معظمها لم يعد يستخدم مطلقاً في طب الأطفال الحديث. بل إننا نزعم أن العديد من الممارسات التي قيل للأهل إنها مفيدة للطفل ما هي إلا عادات ضارّة تؤذي طفلهم وقد تؤدي إلى مضاعفات مزعجة. هذه العادات أراها كل يوم من خلال الممارسة، وأدعو الناس ــ بشكل مستمر ــ للتخلّص منها.


 


أصل العادات


 


إن بعض هذه العادات والممارسات كانت في الأصل طبية ثم عفا عليها الزمن فتغيّرت، وبعضه الآخر قد عفا عليه الزمن منذ ولد، أي أنه ليس له أساس علمي من البداية. وكلاهما يجب التخلّص منه. وبالنسبة للنوع الأوّل، فإن العلم الطبي يتغيّر باستمرار نحو الأفضل، وما كان يعتقد ــ منذ عشرين عاماً ــ أنه أمر مفيد، أصبح معروفاً اليوم أنه أمر ضار. وهكذا فإن الطب علم ديناميكي يتغير باستمرار من خلال التجربة. ويكفي أن أذكر هنا أن جدول لقاحات الطفل في أمريكا قد تغيّر حوالي خمس مرات خلال السنوات الخمس الماضية وأن مدلول أمرٍ كهذا هو أن العلماء يبحثون طوال الوقت عن إغلاق الفجوات في العلم الذي لديهم ليتداركوا أخطاءهم باستمرار. فإذا كانت المبادئ العلمية عرضة للتغير بهذا الشكل، فما بالك بالعادات التي ليس لها أساس علمي أصلاً؟


 


من أجل هذا


 


إن الأمثلة على العادات التي نحاربها وندعو الأهل للتخلص منها كثيرة جداً. ومن أجل هذا الكلام الذي ذكرناه آنفاً فإننا نقوم بدعوة الأهل لعدم استخدام الحزام حول بطن الطفل لمعالجة الفتق، ومن أجل هذا نطلب من الأهل عدم استخدام الملابس الصفراء لعلاج اليرقان، ومن أجل هذا أيضاً نطلب من الأهل عدم استخدام القماط للطفل الوليد، وهكذا!


 


لسنا استثناءً!


 


وفي النهاية فلا بد من أن نقول هنا ــ ولو همساً ــ : إن مبدأ تغير العلوم هو سنة الحياة. فما كتبه الأجداد في كتبهم الطبية قد تحوّل معظمه اليوم إلى سطور تذكر في سياق التذكر التاريخي ولم تعد مبادئه تتبع اليوم. وما يذكره الأطباء اليوم في كتبهم قد يتحول بعد سنوات تطول أو تقصر إلى تاريخ طبي أيضاً.


 


 وهذا لا ينفي قيمة العلم أبداً فكل عالم يقوم باستخدام ما هو متوفر في علوم عصره لخدمة أبناء عصره، ولكن هذا لا يجعل علمه الطبي أو الهندسي أو الكيماوي أمراً مستمراً على مدى العصور.


 


وكأنني أرى الأحفاد من أجيالنا القادمة ــ بعد قرن أو قرنين من الزمن ــ  عندما يبدؤون تعلّمهم وتحصيلهم وهم  يستمعون إلى أساتذهم في كليات جامعية ــ قد لا تشبه كليّاتنا الحالية في شيء ــ فيذكر لهم الأساتذة أن عليهم أن يتخلّصوا من الأفكار القديمة ــ وهي أفكار عصرنا ــ وحين يسألهم التلاميذ (أحفادنا) عن السبب، يجيبهم الأساتذة: إن السبب هو أحد المبادئ القليلة التي بقيت صالحة للاستخدام في عصرنا من علوم الأوّلين الذين كانوا يعيشون في القرن الحادي والعشرين وما قبله ، وهذا المبدأ يتلخص بكلمات ثلاث: (التخلية قبل التحلية)!!

Close Menu