الملاريا …. والمطارات … وإنسان ما قبل التاريخ!!
الملاريا مرض نادر انقرض تقريباً وهو ينتمي إلى الأمراض التاريخية التي نقرأ عنها في الكتب فقط .. … هل هذه العبارة صحيحة؟
في الحقيقة فإن هذه العبارة خاطئة جداً!! فإن مرضاً يصيب نصف مليار إنسان كل عام في العالم، ويقتل مليون إنسان كل عام لايمكن أن يقال عنه على الإطلاق إنه مرض نادر! وإذا كانت الملاريا مرضاً بدأ منذ عصور ما قبل التاريخ ــ وهذا صحيح طبعاً ــ فإن الكتب ليست هي المكان الوحيد الذي يمكن أن نشاهده فيه، فهو لا يزال يشاهد في أجنحة المرضى في 100 بلد في العالم، كما أن الأرقام تقول إن 40% من سكان العالم معرّضون للداء.
التاريخ
الملاريا داء طفيلي ناجم عن نوع من الطفيليات تسمى (الأوّليّات) تنتمي إلى جنس (بلازموديوم) ، تنقله بعوضة الملاريا التي تعرف باسم ( Anopheles) .
والمرض قديم جداً كما ذكرنا أصيب به حتى إنسان ما قبل التاريخ. ويعتقد بعض مؤرخي الطب أنه نشأ في أفريقيا، ورافق الإنسان في هجراته إلى شواطئ البحر المتوسّط والهند وجنوب شرق آسيا. وكان شائعاً في مناطق المستنقعات حول روما. وفي حقيقة الأمر فإن اسم المرض مشتق من اللغة الإيطالية. فكلمة (مال) تعني (سيء) و (آريا) تعني الهواء. وبالتالي فإن المعنى الكامل لاسم المرض هو (الهواء السيّء). وكان يعرف في الماضي أيضاً باسم (حمّى روما).
واليوم يصاب حوالي 500 مليون إنسان كل عام بهذا المرض في أفريقيا والهند وجنوب شرق آسيا وأمريكا الجنوبية. وهو يسبب وفاة مليون إنسان في كل عام.
المطارات
إن ما يدعى بمشكلة (ملاريا المطارات) تم التحدث عنها كثيراً في السنوات الأخيرة. فقد حصلت إصابة لعمال في مؤسسة قريبة من مطار (هيثرو) في لندن على الرغم من أنهم لم يغادروا بريطانياً مطلقاً. وأصيبت سيّدة كانت تقود سيّارتها بالقرب من المطار نفسه. وحصل ذلك لعمال شحن في مطار أمستردام . وقد أصابت الحيرة الأطباء الذين كانوا يعالجون هؤلاء المرضى ، وتم الاتفاق مؤخراً على أن هذه الحالات ربما كانت ناجمة عن انتقال البعوض في البضائع المنقولة من بلدان مصابة، وقيام هذا البعوض بلسع الأشخاص الذين أصيبوا بالمرض على الرغم من عدم مغادرتهم لبلادهم.
البعوضة
على الرغم من معرفة دور بعوضة الملاريا في المرض، إلاّ أن مراحل نمو وتكاثر الطفيلي لم تعرف بدقة إلاّ في عام 1948. فالطفيلي يخوض مرحلة تطوّرية داخل البعوضة الأنثى التي تحتاج إلى وجبة من الدم لإنضاج بيوضها. وتقوم بلسع إنسان وتحقن فيه موادّ من غددها اللعابية تحوي على طفيليات الملاريا . وتجول الطفيليات هذه (وهي في مرحلة تطوّرية بدئية) في الدم وتصل إلى الكبد حيث تدخل الخلية الكبدية وتتكاثر إلى آلاف عديدة في كل خلية ثم تنفجر الخلية الكبدية وتدخل الطفيليات إلى الدم. وتؤدي الملاريا إلى انحلال الدم. وهنالك أحد أنواع طفيليات الملاريا المسمى (المنجلي) الذي يقوم باحتلال 30% من الكريات الحمراء ويؤدي إلى انحلال شديد في الدم. وتحتاج البعو ضة على العموم إلى الجو الحار الذي لا بد منه لنضوجها. ولذلك تنتشر كما ذكرنا في أفريقيا والمناطق الحارة من آسيا كالهند. وبالطبع فإن سوء التخطيط الصحي يلعب دوراً كبيراً في استمرار وجود المرض في تلك البلدان. ففي البلدان المتقدمة تم التخلّص من المرض حتى في المناطق الحارة. وعلى سبيل المثال في جنوب الولايات المتحدة يتوفر الجو الحار الملائم لنمو البعوضة وتكاثرها ولكن تم القضاء الفعلي على المرض منذ عام 1950 وإن كانت بعض الحالات لا تزال تشخص في أمريكا. حيث تقدّر مراكز السيطرة على الأمراض أن هنالك حوالي 1300 حالة كل عام في البلاد، ولكنها حالات (مستوردة) أي أن المرض تم الحصول عليه أثناء السفر إلى المناطق المصابة. ولا يخفى أن هذه الحالات كثيراً ما تشكل صعوبة تشخيصية نظراً لعدم شيوع المرض في البلاد، مما يؤدي إلى الشك بأمراض عديدة قبل أن يحاول الطبيب البحث عن هذا المرض تحديداً. ونذكر أن المرض تم القضاء عليه في بعض الدول المتقدمة من آسيا أيضاً مثل (سنغافورة) نتيجة للجهود المنظمة التي تم تطبيقها هناك بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية.
مرض قاتل
إن الملاريا مرض قاتل، وهو من أهم أسباب الوفاة في العالم، وخصوصاً في الدول النامية. ومعظم حالات الوفاة تحصل في الأطفال. ففي أفريقيا ــ على سبيل المثال ــ يموت طفل كل 30 ثانية بسبب الملاريا! ويعتبر هذا الداء داءً مكلفاً اقتصادياً في الدول الأفريقية والآسيوية التي ينتشر فيها. ويذكر أن هنالك حملة لاستئصال الملاريا تم بدؤها في عام 1950، ولكنها أخفقت للأسف بسبب مقاومة البعوضة للمضادات الحشرية، ومقاومة الطفيليات للأدوية ولأسباب إدارية متعلّقة بالبيروقراطية الموجودة في الدول النامية.
النوع الخطر
إن هنالك أربعة أنواع لطفيليات الملاريا تصيب الإنسان ولكن أخطرها هو النوع المسمى (المنجلي) أوFalciparum حيث أنه يؤدّي إلى حالة شديدة مهددة للحياة نتيجة لشدة انحلال الدم الذي يسببه. إن الأشخاص الذين لا تكون لديهم مناعة للملاريا كالأطفال والحوامل والأشخاص القادمين من بلدان غير مصابة بالملاريا ، هم معرّضون أكثر من غيرهم للحالات الخطرة التي قد تكون قاتلة من المرض. ومن جهةٍ أخرى فإن نقص الوعي الصحي وعدم توفر العناية الطبية هي من الأسباب الهامة لخطورة الإصابة، وليس مستغرباً ــ بناء ً على هذا ــ أن 90% من الوفيات تحصل في أفريقيا في المناطق الموجودة إلى الجنوب من الصحارى. ومعظم هذه الوفيات تحصل في أطفال دون الخامسة من العمر.
المعالجة
إن الملاريا داء قابل للشفاء باستخدام أدوية خاصة. ويحتاج الأمر إلى اتباع دقيق لإرشادات الطبيب. وهنالك قائمة طويلة من أدوية معالجة الملاريا معروفة لدى الأطباء. ويعتمد نوع الدواء وجرعته الملائمة على نوع الطفيلي المسبب والذي سيعرفه الطبيب من خلال الفحوص التي سيقوم بإجرائها.
هل من لقاح؟
على الرغم من قدم هذا المرض وانتشاره الذي تكلّمنا عنه، فإنه لا يوجد لقاح للملاريا حتى الآن. والسبب في ذلك أن طفيلي الملاريا هو طفيلي معقد ومتغيّر ويمر بمراحل مختلفة أثناء تطوّره مما يجعل إنتاج لقاح مضاد للمرض أمراً صعباً للغاية. وعلى الرغم من ذلك فإن إخفاق جميع وسائل منع المرض أدّى إلى أن العلماء لم ييأسوا. وهنالك الكثير من العلماء في جميع أنحاء العالم يعملون اليوم لإنتاج هذا اللقاح الذي يعتبر من أكبر مشاريع الصحة العامة في العالم.
الوقاية
إن الوقاية من الملاريا تشمل تجنّب لسعات البعوض ومحاولة القضاء عليه بوساطة المضادات الحشرية، والتخلّص من أماكن تكاثر البعوض كالمستنقعات. كذلك استخدام الشبكة المانعة لتسلل البعوض (الناموسية) وكذلك استخدام الملابس الطويلة وتجنب تعريض الجلد للهواء.
وبالنسبة للأشخاص المسافرين إلى المناطق الموبوءة، فبالإضافة إلى اتباع هذه التعليمات فإننا نقوم بإعطاء بعض الأدوية المضادة للملاريا والتي تؤخذ أسبوعيا، ويقوم المسافر بأخذها قبل أسبوع من السفر ويستمر بتناولها لمدة أربعة أسابيع بعد السفر. ولعل أكثر الأدوية استخداماً اليوم هو (مفلوكوين).
بانتظار الحل
إن هذه السنوات الطويلة من التعامل مع داء الملاريا كانت حافلة بالإخفاقات والنجاحات. الوجه المضيء هو أن هنالك العديد من الأدوية الفعالة في معالجة المرض. والوجه المظلم هو أن أحداً من العلماء لم يتمكن من إنتاج لقاح حتى اليوم. والخبر الطيّب هو أن العلماء تعاملوا في الماضي ويتعاملون في الحاضر مع الكثير من الأمراض الفتاكة التي تم التغلّب عليها عبر التاريخ. ونرجو ألاّ يكون داء الملاريا استثناءً لهذه القاعدة … قاعدة النصر الطبي على الأمراض الفتاكة. ونحن بانتظار الحل.