الميلامين …. وحليب الأطفال! هل يجب أن نخاف؟!

الضجيج الصحافي الطبّي أصبح من التقاليد الموجودة في العالم كلّه وليس في أمريكا وحدها. فبين الفترة والأخرى لا بد من أن يعم الضجيج وسائل الإعلام العالمية بما يتعلّق بخبر طبي جديد، أو خطر من مرض ما. وفي الأشهر الماضية انشغلت وسائل الإعلام العالمية بخبر متعلّق بمادة أغلب الناس لم يسمعوا بها من قبل ….. الميلامين!

الصين هي السبب

بدأت القصة هذه المرة من الصين حيث كان صانعو حليب الأطفال يضيفون هذه المادة عمداً لمنتجاتهم والسبب في هذا أن إضافتها يجعل المنتجات تظهر وكأن محتوياتها من البروتين أعلى مما هي عليه فعلاً. ونتيجة لوجود هذه المادة بشكل أعلى مما هو مسموح به طبياً فقد أصيب أكثر من 52 ألف طفل في الصين بحصيات الكلية. وقبل 13 ألف طفل إلى المستشفيات وحصلت حالتا وفاة على الأقل.

أمريكا والعالم

هذه المشكلة التي حصلت في الصين والتي ظهرت على العناوين الكبيرة للأخبار في العالم أدّت إلى قيام السلطات الصحية في جميع أنحاء الأرض للبحث  عن وجود مادة  الميلامين في حليب الأطفال الذي يعرض في أسواقها. وقد عُرف أن بعض دول الخليج العربي والتي كانت تستورد الحليب من الصين قد وجد في حليب الأطفال الذي كان يوزع فيها مادة الميلامين وتمت مصادرة كميات من هذه المنتجات. وكذلك في أمريكا، فقد سارعت وكالة الغذاء والدواء إلى تشكيل لجنة وظيفتها البحث في هذه المشكلة. ولحسن الحظ فقد وجدت هذه اللجنة التي تعددت أبحاثها أن هنالك نوعين من الحليب الموزع في أمريكا يحوي أحدهما على مادة الميلامين والآخر على مادة تدعى (سيانوريك أسيد) وهي مادة قريبة كيميائياً من الأولى. ولكن  النقطة الهامة في الموضوع أن الكمية  الموجودة في الحليب كانت ضئيلة جداً بحيث أنها لا تؤثر مطلقاً في صحة الطفل الذي يتناولها. وبلغة الأرقام فإن الأبحاث التي قامت بها الوكالة وجدت أن كمية مقدارها كحد أقصى (جزء من مليون جزء) من مادة الميلامين تعتبر سليمة وغير ضارة للطفل. وبمعنى آخر فإذا احتوى طن من الحليب على غرام واحد من الميلامين فهذه الكمية لا تؤذي. وتعبير (جزء من مليون جزء) يستعمله الكيميائيون كثيراً عندما يتعلّق الأمر ببعض المواد التي تكون إما سامة (مثل الميلامين) أو زهيدة الكمية (مثل الفلورايد) وذلك لدراسة التأثير والأضرار وغير ذلك. والخبر الطيب أن كمية الميلامين التي عثر عليها كيميائياً في بعض أنواع الحليب الموجودة في أمريكا كانت أقل بكثير من الكمية المذكورة (جزء من مليون جزء) مما أضفى الكثير من الارتياح على  الأوساط الطبية والاجتماعية في أمريكا. ويذكر أن وكالة الغذاء والدواء لم تجد أي نوع صيني لحليب الأطفال يتم توزيعه في أمريكا، كما أن شركات صنع حليب الأطفال في أمريكا لا تستورد الحليب الصيني لصنع منتجاتها. أما كمية الميلامين الضئيلة التي تم العثور عليها فكانت نتيجة للتماس مع بعض المواد المستخدمة في صناعة حليب الأطفال، ولم تجد الوكالة أي سبب يدعو للاعتقاد بأن هذه الكميات الضئيلة قد أضيفت عمداً إلى الحليب كما هو الحال في الحليب.

ما هو الميلامين

هو مادة تركيبية تشكل ما يسمى (الراتنجات  الصلبة) عندما يتم مزجها مع مادة (فورمالدهايد) ويتم استخدامها في طيف واسع من المنتجات مثل أوعية الطبخ والصحون والأوراق والكرتون ومضادات الاحتراق. ويستخدم الميلامين أيضاً في بعض البلدان كسماد، ولحسن الحظ فإنه لا يستخدم في أمريكا لهذا الغرض الأخير.

ما تأثيره على الأطفال؟

عندما يتناول الإنسان كميات سامة من الميلامين فإن هذا يؤدي إلى تشكل حصيات الكلية التي تسد المجاري البولية وتجعل التبوّل مؤلماً. وفي الحالات الشديدة فإن الحصيات الكلوية قد تسبب القصور الكلوي وربما الموت.

ما هي الكمية السامة؟

إن الكميات التي وجدت في بعض أنواع الحليب في أمريكا كانت أقل بوضوح من (جزء من مليون جزء) التي تعتبر سليمة للإنسان. وحتى نطمئن قارئ هذه السطور نقول إن الكميات الموجودة في الحليب الصيني التي أدت إلى أذى الأطفال هناك كانت (250 جزءاً من مليون جزء) أي أكثر بحوالي 1500 مرة من الكميات التي وجدت في بعض أنواع حليب الأطفال في أمريكا. علماً بأن الدراسات  الدقيقة ركزت تركيزاً خاصاً على شركات ثلاث هي (ميدجونسون، وآبوت، و نستله) وهي التي تصنع أكثر من 90%  من حليب الأطفال في البلاد.

ما هي أعراض التسمم؟

لوحظ أن  الأطفال المصابين بالتسمم بالميلامين في الصين كانوا يعانون من البكاء غير واضح السبب وخصوصاً عند  التبوّل وأيضاً  الإقياء والحرارة (الناجمين عن التهاب الجهاز البولي) ووجود الدم في البول ولوحظت في بعض الأحيان  الحصيات الصغيرة في البول وأيضاً ارتفاع الضغط الدموي والقصور الكلوي.

هل يتراكم الميلامين؟

لقد سأل العلماء أنفسهم سؤالاً هاماً ملخصه ما يلي: إذا كانت الكمية السليمة هي (جزء من مليون جزء) فهل يمكن أن تتراكم هذه المادة في الجسم بحيث ترتفع كميات ويضر الجسم بعد فترة من الزمن؟ والجواب على هذا هو لا. حيث  أن الجسم يقوم بطرح الميلامين بعد 3 إلى 4 ساعات. وليست هذه المادة من المواد التي تتراكم في الخلايا والأنسجة. فالجسم كما يقول العلماء يمتلك الكثير من الآليات المدهشة التي تحميه من السموم وتساعده في التخلّص منها. وبطبيعة الحال فإن الإنسان يتمنى لو أن  المواد الغذائية خالية تماماً من السموم، ولكن هذا أمر مستحيل واقعياً كما يقول العلماء. وبالتالي فلا بد من قبول كميات ضئيلة تحدد الدراسات العلمية حدها الأقصى وتعتبر سليمة وهنا تأتي أهمية آليات الحماية والتنظيف في الجسم والتي تقوم بطردها والتخلّص منها بحيث لا تؤذي الأجهزة.

(الماركة) الأفضل

كثيراً ما تسألنا الأمّهات فيما إذا كنا نوصي بنوع معيّن من الحليب يخلو تماماً من الميلامين والمواد  السامة التي قد تكون موجودة في حليب الأطفال الموجود في الأسواق. وجوابي دائماً هو أن الماركة الوحيدة التي يتحقق فيها هذا الأمر بالشكل  الأمثل هو (حليب الأم)! وجميع الماركات الأخرى لا بد من أن تحتوي كميات ــ ولو ضئيلة وغير ضارة ــ من الميلامين وربما غيره من السموم التي لا بد من أن تكون موجودة فيه نتيجة للتصنيع.

هل يجب أن نخاف؟

بعد كل هذا الشرح و(التطمين) فإننا لا نزال نتعرّض في عياداتنا لسؤال واحد بسيط ومحدد. هل أن حليب الأطفال في أمريكا آمن تماماً وغير ضار؟ والجواب على هذا السؤال بكلمة واحدة قد يكون ممكناً ولكن الأمر بحاجة لشرح بطبيعة الحال.

إن حليب الأطفال في أمريكا بناءً على الدراسات والأرقام التي ذكرناها آنفاً يمكن اعتباره آمناً دون أضرار. فالدراسات بينت كما ذكرنا أن حليب الأطفال (الفورميولا) الموجود في أمريكا ــ وإن لم يكن غير خالٍ تماماً من الميلامين ــ إلاّ أن الكميات الموجودة فيه غير كافية لإحداث الأذية والمرض، وبالتالي فإن وكالة الغذاء والدواء بكل ما عرف عنها من التحفظ والحذر وعدم التسرع ــ  على العموم ــ في إصدار القرار تقول إنها لا مشكلة في تناول أي نوع من حليب الأطفال المتوفر في أمريكا.

ومن جهة أخرى فإن هنالك بعض العلماء  المتحفظين يقولون إننا لا نعرف على المدى الطويل ما هي الكمية من الميلامين التي قد تكون ضارة بالجسم.

فما هو الحل إذاً؟ إننا نرى أن الحل هو اتباع  الدراسات  العلمية المطمئنة التي أجريت حتى الآن ومتابعة الأخبار العلمية بحثاً عن أية نتائج جديدة قد تتمخض عنها هذه الدراسات. والأمر الذي يدعو للتفاؤل والارتياح  هو أن أصناف الحليب الموجودة في أمريكا يتم استخدامها منذ عشرات السنين دون أية مشاكل تذكر.

وإذا أردنا أن نخرج بنتيجة هامة من هذا المقال فإنها على شكل سؤال موجّه للأمّهات اللاتي يرضعن أطفالهن الحليب الصناعي: هل تعتقدين أن الوقت قد آن للتفكير من جديد بالعودة إلى الإرضاع الطبيعي؟ مجرّد سؤال.