حتى لا يأخذوا طفلي!!!!
سمير طفلٌ جميل عمره خمس سنوات. أحضرته أمه إلى عيادتي في أحد أيام الإثنين. كان على وجهه جرح متوسط الطول، وبدا واضحاً أن الجرح ليس جديداً لأنه كان مغطىً بخثرة دموية جافة. رحبت بالأم وبطفلها الذي كان يبكي فزعاً.
سألت الطفل: لماذا تبكي؟
قال: لأن ماما قالت لي إنك ستقوم بخياطة الجرح، وأنا خائف جداً.
قلت للطفل الجميل: لا تخف يا حبيبي فأنا لن أقوم بخياطة الجرح!!
سألتني الأم باستهجان: لن تقوم بخياطة الجرح؟!
قلت: لا!!
قالت: ولكن هذا يعني أن الجرح سيترك ندبة على وجه سمير.
ــ صحيح!!
* لماذا لن تقوم بخياطته إذاً؟!
ــ متى حصل الجرح؟
* يوم السبت.
ــ في أية ساعة؟
* حوالي الساعة الثالثة مساءً.
ــ أي أن الجرح مضى عليه حوالي اليومين.
* صحيح.
ــ ألا تعلمين يا سيدتي أننا ــ بعد أن يمر عدد معيّن من الساعات على حصول الجرح ــ فإننا لا نستطيع خياطته؟
* لماذا؟
ــ لأن حوافه تكون قد تجففت وبالتالي فمن الصعب أن يحصل شفاؤها بالخياطة إلاّ إذا قمنا بتنضير أنسجة الجرح وهذا سيؤدي إلى توسيعه وزيادة حجم الندبة وهذا ليس أمراً جيداً ولاسيما إذا كان موقع الجرح على مكان ظاهر كالوجه. ولكن دعيني أسألك سؤالاً أكثر أهمية… إذا كان الجرح قد حصل منذ يومين فلماذا لم تقومي بأخذ طفلك إلى غرفة الإسعاف لتتم العناية به هناك؟
حتى لا يأخذوا طفلي!
* ألا تعرف لماذا لم آخذه؟
ــ أعرف، ولكنني أحب أن أسمع الجواب منكِ.
* الجواب هو أنني إذا أخذت طفلي إلى غرفة الإسعاف، ورأى الطبيب أنه مصاب بجرح فإنه سيظن أنني أنا التي سببت له هذا الجرح من خلال الضرب أو غيره أو أنني كنت مهملة له، وبالتالي فإنه سوف يتصل بالجهات المختصة التي ستقوم بالتحقيق وسينتهي الأمر بأن يأخذوا طفلي مني. وأنا بالتالي فضلت أن أنتظر حتى أحضر طفلي لك لأنني أثق بأنك لا يمكن أن تبلغ السلطات المختصة عن الأمر. وهذا هو السبب باختصار.
الأسطورة
لم تكن هذه المرة الأولى التي أسمع فيها جواباً من هذا النوع. فهذا الأمر نواجهه في عياداتنا كل يوم تقريباً. أم أصيب طفلها برض شديد نجم عنه كسر في الذراع، فخافت أن تأخذه إلى غرفة الإسعاف (حتى لا يأخذوا طفلها منها) ونجم عن هذا تأخر في معالجة الكسر وبالتالي شفاء معيب أدى إلى تشوّه في ذراع الطفل. وأم أصيبت أسنان طفلها بالكسر نتيجة لرضوض على الوجه فلم تقم بأخذ طفلها إلى الإسعاف خشية من السبب المذكور ونجم عن ذلك أن طفلها خسر بعض أسنانه. وربما كان الأمر أسوأ كما هو الحال في رضوض الرأس التي تحتاج إلى رعاية فورية ويتم إهمالها للسبب نفسه.
يحز في نفسي فعلاً مدى تكرر هذا الجواب من أمهات وآباء أصادفهم خلال ممارستي اليومية في عيادتي. وأصاب بانزعاج حقيقي. والسبب في هذا الانزعاج هو مدلول هذا الاعتقاد الخاطئ. فهو إن دل على شيء فإنما يدل على عدم معرفة بالنظام الطبي القانوني في أمريكا. والأمر الأكثر تأثيراً وإزعاجاً هو أن الكثير من هذه العائلات تعيش في أمريكا لفترة طويلة قد تصل إلى ثلاثين سنة أو أكثر، ومع ذلك فإن هذا الاعتقاد الخاطئ ــ الذي تطوّر وعشش وفرّخ حتى أصبح كالأساطير ــ لا يزال موجوداً لديها. والسؤال الذي أطرحه على نفسي كل مرة وأحاول أن أناقشه مع العائلات التي أصادف لديها حوادث مشابهة هو: كيف تطوّر هذا الاعتقاد وأصبح منتشراً بين العائلات العربية حتى تحوّل إلى ما يشبه الحقيقة؟
نعم ولا!
فأما عن كون النظام الصحي القانوني الاجتماعي في أمريكا مختلفاً اختلافاً كبيراً وبيّناً عن نظائره في بلادنا، فنعم وهذا أمرٌ لا مِراءَ فيه. وأما أن هذا النظام يقتضي أن تتم (مصادرة) كل طفل يصاب بجرح أو كسر أو رض، فلا!
إن غرف الإسعاف والطوارئ تحفل كل يوم بمئات وآلاف الأطفال الذي يصابون بالكسور والجروح والرضوض، فهل يعني هذا أن جميع هؤلاء الأطفال يؤخذون من أهاليهم ويوضعون تحت رعاية السلطات الرسمية؟ هذا أمر غير صحيح فضلاً عن كونه غير منطقي من حيث الأصل.
إن ما أحب أن أذكره ــ وبوضوح تام ــ هو أن قيام السلطات القانونية بوضع يدها على الطفل وأخذه من أهله ليس أمراً بهذه البساطة، وهو يحصل دون شك، ولكن ليس في حال إصابة الطفل بأذية بسيطة. فحتى يتم هذا الأمر لا بد من (إثبات) أحد أمرين: إما الأذية التي قام الأهل بإحداثها بشكل متعمد أو الإهمال الواضح الذي أدى إلى هذه الأذية.
ولا بد من أن نذكر أن (إثبات) أحد هذين الأمرين محكوم بضوابط لا بد من توفرها. فإذا تحدثنا عن الكسور على سبيل المثال، فإن الكسور التي حصلت نتيجة لأذية متعمدة من قبل الأهل (أي ما يدعى باضطهاد الطفل) تكون لها صفات معيّنة خاصة. فإذا أصيب طفل عمره شهر واحد بكسر في الجمجمة فلا يمكن أن يكون هذا الكسر قد حصل بشكل عفويّ، بل لا بد له من سبب واضح. وهذا السبب قد يكون بسبب قيام الأم بحركة مؤذية للطفل عن قصد أو عن غير قصد. ولكن بالنتيجة فإننا يمكن أن نعتبر هذا الكسر أمراً (مريباً) لا بد من التحقيق فيه. وهذا أمر طبيعي ومنطقي. فمن غير المعقول أن تقوم السلطات بترك الحرية للناس للقيام بإيذاء أطفالهم فالطفل ينتمي للمجتمع بنفس مقدار انتمائه لأهله. وفي حال كون العائلة مهملة أو مؤذية أو غير مسؤولة ، فليس من المعقول أن يترك الأطفال لهذه العائلة. فهنالك سلطة للمجتمع وهي مشابهة لما نعرفه في ثقافتنا بسلطة (وليّ الأمر) بالمعنى الواسع للكلمة.
ونحن إذا علمنا مدى انتشار الأذية المحدثة من قبل الأهل ضمن إطار (اضطهاد الطفولة) في المجتمع والتي تتراوح أشكالها من الأذية الفيزيائية إلى الأذية الجنسية، لعلمنا أن سَنّ هذا النوع من القوانين هو أمر ضروري لاستقرار المجتمع، ولا يمكن للمجتمع أن يعيش دونه وإلاّ تحوّل الأمر إلى فوضى. ولكن من جهة أخرى فإن تطبيق هذه القوانين لا يتم بشكل فوضوي أحمق، أي أنه من غير المعقول أن تفقد العائلة طفلها لمجرد سقوطه على الأرض لسبب ما وإصابته بجرح.
السلامة أوّلاً
في إطار مناقشتي للحالات المشابهة لحالة سمير فإنني أذكـّر الأهل بمبدأ هام جداً وهو (السلامة أوّلاً)، فقبل التفكير بالأمور القانونية لا بد من أن نفكر وبشكل جدي بسلامة الطفل وبضرورة العناية بالأذية سواءً كانت جرحاً أو كسراً أو رضاً أو تسمماً. هذا الأمر يجب أن تكون له الأولوية. فهل من المعقول أن تفقد العائلة طفلها نتيجة لإهمال معالجة رض أدى إلى نزف في الجمجمة خوفاً من أن (تفقده) بسبب قيام طبيب الإسعاف بإبلاغ السلطات عن هذه الأذية؟ إن المنطق السليم يتنافى مع ذلك تماماً. وإن حنان الأم والأب يأبى عليهما أن يعرّضا طفلهما لأذية ناجمة عن الإهمال. فإصابة الطفل بجرح على سبيل المثال ليس ذنباً لهما، ولكن إهمال معالجته هي الذنب الحقيقي بلغة المنطق ولغة القانون أيضاً.
الطفل لكِ
في كل مرة أتعرض لحالة مشابهة لا أملك إلاّ أن أذكر قصة قديمة سمعتها بأكثر من شكل وأحب أن أروي أكثر أشكالها دراماتيكية وتأثيراً.
يحكى أن امرأتين اختلفتا بشأن طفل صغير وادّعت كل منهما أنه لها. واحتكمتا إلى حكيم عظيم. وبعد أن سمع الحكيم جدالهما الشديد وعجزت كل منهما عن إثبات انتماء الطفل إليها قال لهما: حسناً سأقوم بشق الطفل إلى نصفين وسأعطي لكل منكما نصفاً. إحدى المرأتين لم تقل شيئاً وأما الأخرى فصاحت بلهفة وذعر شديدين: لا يا سيدي!! الطفل ليس طفلي … هو لها !! عندئذٍ خاطبها الحكيم قائلاً خذي طفلك يا امرأة …. فأنتِ الأكثر حناناً ورأفة به ولا بد من أن تكوني أمه!! وصدق الحكيم فإن الأم الحقيقية والأب الحقيقي يؤثران سلامة طفلهما ويضعانها أوّلاً وقبل كل شيء.