العم سعيد الذي أحرق جميع السفن!!!

 


العم سعيد الذي أحرق جميع السفن!!!


 


” أنا راحلٌ يا سيّدي … الوداع !


ومع ذلك، فإنني لا أعرف كيف يسلبُ الوهمُ خزينة الحياة


إذا ما الحياة نفسها أذعنت  للسلب ! “


 


ويليام شكسبير ــ مسرحية الملك لير


 


 


آلو … نعم يا دكتور !! كيف حالك؟ آسف لأنني قاطعت يومك الطويل في العمل…. أنا أسمع بكاء الأطفال من خلال سماعة الهاتف. أنا أعرف أنك منشغل جداً… هكذا قالت لي السكرتيرة، أرجوك لا تعاقبها لأنها قاطعتك لترد على مكالمتي، لقد كنت أنا الذي ألححت عليها بأن تقاطعك. لقد قلت لها إن الأمر عاجل. أنا لم أكذب، فالموضوع عاجل فعلاً.


 


 قصتي لا بد من روايتها، والوقت المتبقي ليس طويلاً فيما أعتقد. وهذا يجعل الأمر عاجلاً تماماً. أنا سعيد!! لا… لا يسرحْ بك الخيال. سعيد اسم وليس صفة. اسمي سعيد. أنا أعرف أنك تسأل نفسك من أين سمع بي هذا الرجل؟ في هذا المكان أنا أجد الوقت لقراءة كل ما يصدر باللغة العربية من صحف. صحيفتكم حلوة… وأنا أقرأ ما تكتبه باستمرار. ليس لديّ أولاد صغار حتى أستفيد مما تكتب. كم كنت أتمنى لو أنني قرأت مقالاتك حين كان أولادي صغاراً. آه … آسف … عندما كان أولادي صغاراً لم تكن أنتَ قد ولدت َ بعد! أنا في الرابعة  والثمانين من عمري. وأحبك أن تعرف تماماً أنني ما زلت في كامل ملكاتي العقلية! ألا تعلم أن تشرشل وصل إلى التسعينات من عمره وكان لا يزال يعمل في مجال السياسة الدولية وعلى أعلى المستويات؟  حتى في آخر سنوات عمره كان مفاوضاً ماهراً وسياسياً كبيراً… صحيح أنه كان يغفو أثناء متابعته لمداولات مجلس اللوردات في بريطانيا، ولكنه ظل نجماً في عالم السياسة!


 


  نعم… عندما يتقدم العمر بالإنسان فإنه يميل إلى متابعة أخبار المسنين والافتخار بما يحققونه من نجاحات. صدّقني يا دكتور أنا لست مصاباً بالخَرَف. ولذلك فبإمكانك أن تثق بأن كل حرف من حروف قصتي صحيح تماماً.  أنا أسمع أنفاسك من خلال سماعة الهاتف، أنفاسك توحي بأنك على عجل…. أعتذر إليك من جديد. حسناً سأروي لك القصة.


 


 


كان الخبر أكبر فرحة في شبابي… نعم….. لا تغرّنك حشرجات صوتي … أنا أيضاً كنت شاباً، كانت لي أحلامي وآمالي وطموحاتي في المستقبل…  عندما قيل لي إنني حصلت على بطاقة لركوب السفينة التي أتت بي إلى هذه البلاد … كدت أطير فرحاً… كان ذلك هو الحلم.


 


 أبي ــ رحمه الله ــ لم يكن سعيداً مطلقاً بالخبر.. وكذلك والدتي. حاولا أن يمنعاني من الرحيل. قالا لي إن العمل بالأرض يظل أكثر بركة… وإن البقاء في بلاد الآباء والأجداد أولى بي. أبي كان شيخاً كبيراً… كنت أصغر أولاده وكان ترتيبي التاسع بين ثلاثة أبناء وست بنات. كلهم كان له شأنه الخاص. منهم من كان قد تزوّج ومنهم من كان يعمل بالأرض ليحمل عبءاً عن والدي بعد أن تقدمت به السن. محاولات والديّ لإقناعي بعدم الرحيل تحوّلت إلى غضب شديد بعد أن رأيا إصراري. أبي رفض أن يأتي إلى الميناء لوداعي….. أمي غالبت دموعها وأتت … سمعت أن أبي كان غاضباً منها لدرجة كبيرة عندما علم أنها جاءت لوداعي. لم أكن  مستعدّاً لتفويت الفرصة. إنه مستقبلي! ماذا يعرف الآباء والأمهات عن المستقبل وأحلامه لدى شاب وصل لتوّه إلى العشرين من العمر؟ ماذا يعرفون عن المعنى الحقيقي لكلمة المستقبل؟


 


 


 


الرحلة كانت طويلة… زادي كان قليلاً … كنت قد استدنتُ بعض المال من خالي لتغطية نفقات الرحلة. خالي كان بمثابة الأخ بالنسبة لي… في الحقيقة كنت أكبره بعامين! قبل أن يعطيني الدراهم ألحّ عليّ ألاّ أخبر أمي أو أبي لأنهما كانا سيغضبان منه أيضاً. أبي كان غاضباً لدرجة لا يمكن لك أن تتصوّرها. أنا أعلم أنني أغرقك بالكثير من التفاصيل… أرجو أن يتسع صدرك لبقية قصتي.


 


 عندما وصلت إلى هذه البلاد كنت مندهشاً فعلاً للفرق الهائل بينها وبين بلدي. بدأت أعمل كعامل زراعي في بداية الأمر… كنت أساعد في حصاد الذرة في ولاية إلينوي… في قرية صغيرة تبعد حوالي مئة ميل عن مدينة شيكاغو. كان الدخل مقبولاً ولكنه كان أقل بكثير مما كنت أحلم به. ومع ذلك فقد كنت أعيش على أمل أن يتحسن الأمر في المستقبل القريب. بعد فترة قليلة أتاني نبأ وفاة أبي. بكيت كثيراً … وبكيت أكثر عندما علمت أن أمي لم تطق البقاء بعده لفترة طويلة. كان أكثر ما يحزنني أنهما لم يكونا راضيين عني وعن قراري بالسفر.


 


كنت قد بدأت أشعر بالوحدة الشديدة. صديقي الذي أتيت بصحبته إلى هذه البلاد انتقل إلى كاليفورنيا. كانت لديه هوايات فنية وكان لديه حلم كبير بأن يصبح نجماً سينمائياً كبيراً …. علمت فيما بعد أنه أصبح عاملاً فنياً للإضاءة  في إحدى محطات التلفزيون المحلية في لوس أنجلس.


 


 عندما التقيت (مارغاريت) وجدت فيها أنيساً ينقذني من وحشتي التي كانت قد بدأت تتزايد بشكل مخيف. كانت هي أيضاً تعمل في الحقل معنا… وتعلّمت من خلالها كيفية التفاهم باللغة الإنكليزية التي لم أكن أعرف الكثير من مفرداتها. بعد أسابيع قليلة اتفقنا على  الزواج.  عرسنا حضره بعض من أهلها وأصدقائها. لم يكن لي أهل في هذه البلاد ولم يكن لي أصدقاء.


 


 عندما أتى طفلنا الأوّل إلى الحياة، أحسست بأن حياتي أصبح لها لون جديد ومعنى مختلف. وكنت في ذلك الوقت قد مللت العمل في الزراعة. لقد عملت في الزراعة منذ كنت طفلاً. لم يتغيّر عليّ شيء……. في بلادي كنا نزرع التين والرمّان واللوز. وها أنا ذا أعمل مزارعاً أجيراً في حصاد الذرة… لم يكن ذلك ليلبي طموحي.  وبحثنا أنا و(مارغاريت) عن عمل جديد. وانتقلنا إلى مدينة ديترويت…. وقد انضممنا لنعمل في شركة (فورد) التي كانت في قمة مجدها في ذلك الحين … كانت الحرب العالمية الثانية قد انتهت منذ سنوات … وكان الاستقرار الاقتصادي يتطلّب إنتاج السيّارت بكثرة. بعد دورة تدريبية قصيرة تمكنا أنا و(مارغاريت) من أن نعمل على خط إنتاج السيارات في الشركة، وكان دخلنا يزيد.


 


 ومع قدوم طفلنا الرابع إلى الحياة كنا في وضع مادي جيّد. أنا ممن يحب التغيير باستمرار. قلت لزوجتي يوماً لماذا لا نقوم بإنشاء عمل خاص بنا. خالفت كل آراء زوجتي التي لم تكن تحب الفكرة …. قالت لي إن ذلك سيجعلنا نفقد كل الفوائد التي يقدمها لنا العمل في الشركة كالتأمين الصحي والتقاعد. التقاعد؟ ومن يفكر بالتقاعد وهو ما زال في الشباب؟ هكذا كنت أقول لها.


 


كنت أخصص كل دخلي لتعليم أطفالي الأربعة…. الأمر كان ممتازاً، والخطة بدأت تؤتي ثمارها… وهكذا مع مرور السنين انتقل كل من أطفالي إلى مدينة مختلفة… كان ذلك ضرورياً لأن كلاً منهم أراد أن يدرس في جامعة مختلفة. في البداية كان يزعجني أن أحداً منهم لا يتكلّم أية كلمة عربية. ولكن هذا الأمر تلاشى مع مرور الأيّام، وبدأت أشعر بسعادة حقيقية لأن أطفالي قد أصبحوا جزءاً لا يتجزأ من هذا المجتمع…. على الرغم من أن أباهم مهاجر بسيط حالم. وقد  التحق كل من أطفالي بعمل مختلف في مدينة مختلفة. كنا نجتمع في أعياد الشكر وأعياد الميلاد من كل عام عندما يكون لديهم الوقت للاجتماع. وتقدمت بنا السن أنا وزوجتي … وكنا نستمتع بحضور أحفادنا وأبنائنا وبناتنا مرة أو مرتين في العام إلى منزلنا الصغير.


 


في يوم من الأيام …. انقلبت حياتي رأساً على عقب. لقد أصيبت زوجتي بمرض عضال.. لا تسألني ما هو .. أنا لا أحب الحديث عنه مطلقاً…. بعد فترة قصيرة رحلت زوجتي عن الحياة. كنت قد بلغت الخامسة والسبعين. اتصلت بأبنائي وبناتي على أمل أن أعيش مع أحد منهم، ولكن الرد كان سلبياً منهم جميعاً. لم يكن أحد منهم على استعداد لأن يغير برنامجه اليومي وأسلوب حياته بأن يسمح لي أن أعيش في منزله. كنت قد أصبحت ضعيفاً جداً ومصاباً بالعديد من الأمراض. لم أكن أستطيع العناية بنفسي. عندما طلبت من أطفالي أن يجدوا لي حلاً. أجروا محادثات هاتفية بينهم وقرروا الحضور جميعاً في أحد الأيام وواجهوني بحقيقة أنهم قرروا أن يأتوا بي إلى هذا المكان الذي أكلمك منه الآن.


 


أطفالي أصبحوا جزءاً من هذا المجتمع … وهذا المجتمع له أسلوبه الخاص بالحياة.


 


نعم يا دكتور … أنا سعيد… الذي أحرق جميع سفنه ليأتي إلى هذه البلاد… حاملاً حقيبة من الأحلام الكبيرة. لا يمكنك أن تتخيل كيف كانت مشاعري وأحلامي عندما ركبت السفينة التي أوصلتني من بلادي إلى ميناء نيويورك …. كنت أفكر بالمستقبل الزاهر الذي ينتظرني … كنت أرى نفسي تاجراً كبيراً …. ملكاً للسكر أو للأرز أو للقمح في أمريكا. لم أكن أعلم أنني سأقضي سنواتي الأخيرة في مأوىً للمسنين.


 


 أولادي أصبحوا جزءاً من هذا المجتمع…. وأنا أيضاً أصبحت جزءاً من هذا المجتمع على طريقتي! آسف يا دكتور لقد أضعت ما يقرب الساعة من وقتك…. لماذا لا تعود إلى عملك الآن؟  


 

Close Menu