البحث عن الحديد !!

 

 

لقد أخبرتني صديقاتي أن السبب في معاناة طفلي وبكائه والإمساك الذي يعاني منه هو الحديد  الموجود في الحليب الصناعي الذي يتناوله. لقد أصبح عمره شهرين وهو مازال يعاني منذ الولادة من المغص. لقد بحثت عن حليب صناعي دون حديد فلم أجد. لقد كان الأمر صعباً جداً. وقد طلبت من صديقاتي أن يرسلن لي الحليب مع إحدى الصديقات القادمات من الوطن. وقد أحضرت لي ــ سلمت يداها ــ بعض علب الحليب المخصص للأطفال والذي يحوي على كميات ضئيلة من الحديد. صحيح أن طفلي لم يتحسن حتى الآن على الرغم من أنني بدأت إعطاءه هذا النوع من الحليب منذ حوالي الأسبوع، إلاّ أن صديقاتي ــ وهن خبيرات جداً في هذا المجال ــ أخبرنني أن طفلي سرعان ما سيتحسّن. وأنا هنا لآخذ رأيك يا دكتور في هذا الموضوع!

 

 

 

رأي الطبيب

 

قلت لها: في أي شيء تحاولين أن تأخذي رأيي؟

 

 قالت: في موضوع الحديد كسبب للمغص لدى الطفل. ألم أفعل حسناً بتغيير حليب  طفلي؟

 

 ــ  كل ما فعلتِه هو أنك أعدتني ــ وأعدتِ طفلك أيضاً ــ خمسة وثلاثين عاماً في تاريخ الطب!

 

*  ماذا تعني بخمسة وثلاثين عاماً؟

 

 ــ  أعني عام 1971.

 

 *  مازلت تتكلّم بالألغاز.

 

 ــ الأمر ليست فيه أية ألغاز. كل ما في الأمر هو أنه منذ العام 1971 أوصت الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال بعدم إعطاء حليب البقر العادي للطفل دون عمر سنة، وأوصت بأن يستبدل به الحليب الصناعي الحاوي على الحديد.

 

 *  ولكن الحديد يسبب المغص.

 

 ــ  دعكِ الآن يا سيّدتي  من المغص والإمساك ! فهما عرضان قد ينتجان عن الحديد وإن كان الحديد متهماً بهما دون أي ذنب في معظم الأحوال. ومع ذلك فهذا الأمر ليس هو الأمر الأهم الذي أريد أن أحدثك عنه. ما أريد أن أتكلّم عنه هو فائدة الحديد والضرر الناجم عن عدم إعطائه للطفل.

 

 * ولكن صديقاتي….

 

 ــ  أرجو أن نترك حديث صديقاتك الآن ولنتكلّم مرة أخرى عن الحديد!!

 

 

 

 ثلث العالم

 

حسب إحصاءات منظمة الصحة العالمية فإن ثلث عدد سكان العالم ــ أي ملياري إنسان ــ هم مصابون بفقر الدم الناجم عن عوز الحديد. وكان فقر الدم الناجم عن عوز الحديد شائعاً في الولايات المتحدة الأمريكية  حتى الستينات من القرن الماضي. وفي عام 1971 أصدرت الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال ــ وهي أعلى هيئة تعتني بصحة الطفل في أمريكا ــ أصدرت تعليماتها بمنع إعطاء حليب البقر العادي للرضيع (الطفل في السنة الأولى من العمر)  وأن يستبدل به الحليب الصناعي المقوّى بالحديد. لم يكن هذا الأمر دون سبب إذا لاحظنا أن ماكان موجوداً في العالم في ذلك الوقت ــ ومنه أمريكا ــ من حالات فقر الدم. كما أن التعليمات الجديدة آتت أكلها خلال فترة قياسية هي عشر سنوات. فقد هبطت نسبة فقر الدم بعوز الحديد بشكل ملحوظ  حسب إحصاءت عيادة الأم والرضيع التي تم إنشاؤها في تلك الفترة لمتابعة هذا الأمر تحديداً، ثم توسعت مهماتها لاحقاً حيث أصبحت توزع حليب الأطفال على العائلات التي تحتاج إليه كما أنها بدأت بتوزيع أغذية أخرى للأم والطفل.

 

 

لا يزال موجوداً

 

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو : هل انتهى فقر الدم بعوز الحديد في بلد متقدم علمياً هو  أمريكا. والجواب هو : لا للأسف. فالإحصائيات تقول إن الأمر موجود في 14% من الأطفال الذين يبلغون عاماً من العمر، وفي 5% ممن يبلغون عامين. وفي 9% من المراهقات. وفي 11% من النساء في سن الإنجاب!! وإذا كان السبب في فقر الدم بعوز الحديد في الدول النامية هو فقد  الدم الناجم عن الأمراض الطفيلية المعوية، فإن السبب في أمريكا هو نقصه النسبي في الغذاء. فالمجموعات العمرية التي ذكرناها تتميّز بحاجتها الزائدة للحديد نتيجة لسرعة النمو أو للحاجة الزائدة له بسبب الحمل مثلاً. وإذا كان استخدام الحليب الصناعي المقوّى بالحديد يؤمّن حاجة الرضيع منه، فإن  الأطفال الدارجين (بين عمري 1ــ 3 سنوات) قد تكون لديهم عادات غذائية تؤدي إلى عوز الحديد. ومن المعلوم أن بدء استخدام حليب البقر العادي بعمر مبكر (قبل بلوغ الطفل السنة) أو تناول كميات كبيرة منه (أكثر من 24 أونزة في اليوم) هي أسباب تؤدي  إلى نقص الحديد.

 

 

 

 

لماذا؟

 

وكثيراً ما نُسأل: لماذا يؤدي حليب البقر العادي إلى نقص الحديد في الأطفال؟ والجواب على ذلك يمكن تلخيصه بثلاثة عوامل. أوّلها أن محتوى حليب البقر من الحديد قليل. فإذا كان يشكل نسبة كبيرة من الغذاء، أدى ذلك إلى عوز الحديد. والأمر الثاني أن حليب البقر ينقص  امتصاص الحديد في الأنبوب الهضمي. والأمر الثالث هو أن الحديد يؤدي إلى نزف خفيّ في الجهاز الهضمي. كل هذه العوامل تؤدي إلى عوز الحديد في الجسم. إن الكثير من الأمهات يحاولن أن يعطين كميات كبيرة من الحليب لأطفالهن من مبدأ (زيادة الخير خير!) ولكن هذا الأسلوب غير صحيح. فزيادة  الكمية عن الحد المقبول تؤدي إلى تأثيرات سلبية لا تحمد عقباها.

 

 

وخزة بسيطة

 

كثيراً ما تسألنا الأمهات عن السبب الذي نقوم من أجله بإجراء فحص للدم في عمر السنة لجميع الأطفال في عياداتنا. وأشيع تعليق نسمعه من الأمهات في هذا المناسبة هو أن أطفالهن أصحاء لا يعانون من أية مشكلة. فلماذا نقوم بــ (وخز) الطفل دون سبب؟

 

 والجواب دائماً هو أن هذه الوخزة البسيطة توفر وخزات في المستقبل على الطفل. ففي عمر السنة نقوم بالمعايرة الروتينية للهيموغلوبين (الذي يمثل مستوى الحديد لدى الطفل) إضافة لمعايرتنا للرصاص (الذي كنا تناولناه في حديث سابق منذ سنوات). إن تشخيص نقص الحديد لدى الطفل في عمر مبكر يساعدنا في المعالجة المبكرة لهذا المرض الذي قد تكون له نتائج سيئة جداً على الطفل تشمل المشاكل القلبية والتعليمية. فنقص الحديد هو مرض جهازي يؤدي إلى تأثيرات جانبية عامة أيضاً. ومن  المطلوب أيضاً إجراء فحص الدم للمراهقين بين عمر 11 و21 سنة مرة واحدة للتأكد من عدم وجود نقص الحديد، كما أننا نقوم بفحص دم المراهقات كل سنة لأن تعرّضهن لنقص الحديد هو أعلى من الذكور لأسباب واضحة.

 

 

الصديقات

 

قالت لي الأم: لن أحدثك من جديد بما قالته لي صديقاتي فأنا أعلم أنك لا تستمتع كثيراً بسماع هذا النوع من الحديث.

 

 قلت: صدقتِ.

 

 *  ولكن لا بد لي من أن أسألك هذا السؤال بشكل أو بآخر.

 

 ــ  تفضّلي. ولكن حاولي ألا تذكري لي كلمة صديقات في سؤالك، فهذه الكلمة صارت تسبب لي الصداع لأنني أسمعها عشرات المرات في كل يوم.

 

 *  لماذا يتهم الحديد كثيراً من قبل الناس بأنه السبب في الإمساك والمغص لدى الطفل.

 

 ــ  أوّلاً لا تصدقي كل ما تسمعينه. ثانياً… ربما كان للحديد ــ كأي شيء في الدنيا ــ بعض التأثيرات الجانبية. ولكن فوائده  ــ بل ضرورته ــ تتجاوز بكثير أضراره.

 

 * والإمساك لدى طفلي؟

 

 ــ  نعالجه بإعطاء بعض من عصير الفاكهة الممزوج بمسحوق الألياف الطبيعية  كما ذكرت لك في زيارة سابقة.

 

 *  والمغص؟

 

ــ  نعالجه بالدواء الذي أعطيته لك في زيارة سابقة.

 

 *  والصديقات؟

 

 ــ  يجب أن تعديني ألا تستمعي إلى كلامهن مطلقاً بعد  اليوم.

 

*  والحليب ذو  الحديد المنخفض الذي قمت باستيراده؟

 

ــ  هذه بسيطة.

 

 *  كيف؟

 

 ــ  كما قمت باستيراده قومي بإعادة تصديره إلى بلد المنشأ ثم قومي بشراء حليب يحوي على الحديد وأعطيه لطفلك وأنقذيه من عوز الحديد المحقق.

 

 *  أفعل حالاً إن شاء الله.