بيرم التونسي…. وإنفلونزا الخنازير… والمشي نحو الخلف!!
بيرم التونسي كان أعظم زجّالٍ عربي. ولد عام 1893 وتوفي عام 1961. أنا أحب هذا الشاعر كما يحبه جميع العرب. ولكنني في الأسابيع الثلاثة الأخيرة كنت متعاطفاً معه لدرجة استثنائية.
المجلس البلدي
وطبعاً قد يسأل القارئ ماعلاقة داء إنفلونزا الخنازير الذي يظهر واضحاً في عنوان المقال، ببيرم التونسي ؟ وفي الحقيقة ففي الأسابيع الثلاثة الأخيرة أي تحديداً منذ بدأت في عيادتي بإعطاء لقاح إنفلونزا الخنازير لم أستطع أن أنزع قصيدة لبيرم التونسي من ذهني. وهذه القصيدة هي بعنوان (المجلس البلدي). كانت هذه القصيدة في الواقع أحد أسباب شهرة هذا الشاعر الكبير لدرجة أنه عندما كان ينشر قصيدة بعدها كان الناشر يكتب (بيرم التونسي ــ كاتب قصيدة المجلس البلدي). وفي هذه القصيدة يتكلّم عن المجلس البلدي في الإسكندرية في بداية القرن الماضي. وكان هذا المجلس يتحكّم في الناس ويفرض الضرائب العالية على كونه عديم الفائدة بالنسبة لسكان المدينة. فكتب بيرم التونسي قصيدته الأشهر بذلك العنوان وفيها يقول:
قد أوقع القلب في الأشجان والكمدِ
هوى حبيبٍ يسمّى المجلس البلدي
أمشــــي وأكتمُ أنفاسي مخافة أن
يعدّها عاملٌ للمجلس البلدي
إذا الرغيف أتى فالنصف آكلهُ
والنصف أتركه للمجلسِ البلدي
يابائع الفجل بالملّيم واحدةً
كم للعيالِ وكم للمجلس البلدي؟!!
ومن الملاحظ أن الشاعر الكبير قد جعل كلمتين كاملتين هما (المجلس البلدي) قافية بحد ذاتها يكررها في نهاية كل بيت ليعبر عن حرقته العميقة من هذا المجلس سيّء الذكر.
إنفلونزا الخنازير
وإذا كان المجلس البلدي قد ملأ على بيرم التونسي حياته وكيانه وصادر أفكاره وأرغفته في تلك الفترة من الزمن، فإن داء إنفلونزا الخنازير لعب هذا الدور في حياتي وأكثر من ذلك في الأسابيع الثلاثة الماضية. فأنا أصحو في الصباح على اتصال لأم تسأل عن إنفلونزا الخنازير، وهل أن طفلتها المصابة بالحرارة لديها هذا المرض. ولا يمكن أن أنام قبل أن أجيب على بعض الأسئلة لأهل لديهم حيرة بشأن هذا المرض. ثم إنني أقضي نهاري أجيب على أسئلة متعلّقة به. وكنت أعتقد في فترة الأشهر الماضية ــ منذ أن تم اكتشاف المرض ــ أن التعامل مع إنفلونزا الخنازير هو أكبر المشاكل الطبية في التاريخ إلى أن اكتشفت اكتشافاً هاماً وهو أن التعامل مع (لقاح إنفلونزا الخنازير) هو معضلة أين منها إنفلونزا الخنازير وكل خنازير الدنيا.
المشي نحو الخلف!!
عندما قرأت المقالات التي نشرها بعض المعتوهين على الإنترنت والتي جعلت من لقاح إنفلونزا الخنازير سببا ً لكل الشرور في الأرض كنت أظن أن الأمر انتهى عند هذا الحد. ولكن الحقيقة أن الإبداع الإنساني أمر لا ينتهي ولا يعنو للحدود كما يبدو. وأعتقد أن كل ما فعلته هذه المقالات هي أنها أطلقت قريحة الناس بتساؤلات وإضافات و(اقتراحات) زادت في الطنبور نغماً. فالأسئلة التي أتعامل معها كل يوم تعتبر مثالاً للخيال المجنّح. سيّدة كريمة اتصلت بي وقالت إن طفلها يبول في فراشه فهل السبب هو لقاح إنفلونزا الخنازير الذي أعطي له منذ أسبوع؟ وأخرى قالت لي إن براز طفلها أصبح لونه (بين الأبيض والأصفر) ــ الأمانة في النقل مطلوبة كما تعلمون ــ فهل السبب هو لقاح إنفلونزا الخنازير؟ وثالثة أخبرتني أن طفلها من المشاغبين في مدرسته ويشكو منه معلّموه: فهل لقاح إنفلونزا الخنازير سبب ذلك؟ وأخرى سألتني اليوم والدموع في عينيها : أصحيح أن طفلي لن يستطيع أن يتزوج من امرأة في المستقبل لأنه قد تلقّى لقاح إنفلونزا الخنازير في الأسبوع الماضي؟ أرجوك أن تصارحني يا دكتور!! (بالمناسبة طفلها عمره سنتان). وأخرى طلبت مني أن أعطي أطفالها اللقاح، ثم شاءت الأقدار أن صديقة لها ــ تحبها كثيراً فيما يبدو ــ أعطتها المقال إيّاه والذي تناقلته (دكاكين الإنترنت) فأصبت (زبونة مداومة) في عيادتي تسألني كل يوم هل صحيح أن اللقاح يسبب الشلل وهل صحيح أن أطفالي الذين أعطي لهم اللقاح سيتمكنون من المشي نحو الخلف وليس نحو الأمام؟!!! ( بالمناسبة .. .هذه أكثر القصص شعبيّة في الفترة الأخيرة) وكل يوم سؤال جديد.
إجابات
من الصعب أن أذكر هنا كل إجابة عن كل سؤال طرح بشأن لقاح إنفلونزا الخنازير. ولكن هنالك أسئلة يجب أن يطرحها كل إنسان على نفسه قبل أن يخوض في هذا الحديث الذي لا ينتهي: إذا كان اللقاح مؤذياً لهذا الحد، وإذا كان قد تم تصميمه لقسم العالم إلى نصفين نصف قادر ونصف عاجز كما تذكر بالحرف تقريباً المقالات التي يتم تداولها في أكواخ الإنترنت، فلماذا تفرضه أكبر دول العالم على جيوشها؟ وإذا كان اللقاح مخيفاً إلى هذا الدرجة فلماذا كان الأطباء أوّل من يحرص على أخذه وإعطائه لأسرهم؟ وإذا كان إيذاؤه بالغاً للمدى الذي تم التحدث عنه فلماذا كان وزراء الصحة في دول العالم هم أوّل من يأخذه ويعرضون ذلك على الشاشات الفضية والذهبية والملوّنة؟ مجرّد أسئلة برسم الإجابات.
أفكار
يصعب عليّ كثيراً أن أذكر عدد المرّات التي يتوجّب عليّ فيها أن أجيب عن سؤال متعلّق بإنفلونزا الخنازير ولقاح إنفلونزا الخنازير في كل يوم… لقد ملأ عليّ الأمر حياتي… وكياني… وحتى أحلامي التي أصبحت مزيجاً من لقاحات .. وسعال وبكاء وخنازير!!! وفي إحدى المرّات سألني أب كريم لأحد المرضى عن اللقاح … أشبعه أسئلة واستفسارات وطلبات للشرح… قلت له: لقد كتبت مقالاً عن اللقاح فهلاّ قرأته؟ قال لي: لقد قرأته ولكنني أحب أن أسمع منك!! ثم تابع أسئلته … وتابعت شرحي. وبعد أن انتهيت تنفست الصعداء… وقال لي: أنا أثق بك كثيراً يا دكتور… لذلك سأفكر في الأمر!!! قلت: الحمد لله. ثم نظر إلى والدته العجوز التي تجلس في الغرفة… وقال لي : إذا لم يكن هنالك إزعاج يا دكتور فوالدتي لا تتكلّم اللغة الإنكليزية… فهلاّ تفضّلت بأن تعيد لها ما قلته لي .. ولكن باللغة العربية؟!!!
لكلّ مجلسه
إذا كان المجلس البلدي هو الذي ملأ كيان بيرم التونسي لفترة من حياته، فإن (مجلسي البلدي) هذه الأيّام هو إنفلونزا الخنازير ولقاحها العتيد. وإذا كان الشعر ديوان العرب لأنه الوحيد الذي يعبّر عن مشاعرهم وينفـّس عن آهاتهم، فقد قلت هذه الأبيات ــ بعد إذن الشاعر الكبير ــ لأعبر عن مشاعري وأقول ولو كلمتين متواضعتين عن هذا الداء علّ من يقف وراء كل هذه الإشاعات يقرؤها … فيتـّعظ ويتركنا في حالنا
أتى من غير تحذيرِ
وأضحى كالأساطيرِ
وأصبحَ اسمهُ رعباً
يهز ُّ سكينة الدورِ
يراهُ الفارسُ العاتي
فيهربُ مثلَ عصفور
ِ
ويخشى أن يصابَ به
فيقضي ميتةَ العير
ِ
ويُـخترَعُ اللقاحُ له
فيمسي غير مشكور
ِ
وأ ُسـْألُ عنه أسئلة ً
تعزُّ على التفاسيرِ
ويسرق خلسة ً نومي
فأصبحُ غيرَ مسرور
فليتك تختفي في الحالِ
ياداء الخنازير