الحمى المالطية ولعبة الأسماء!!
كنا قد تحدثنا سابقاً في هذه الصفحة عن حقيقة أن هنالك الكثير من الأمراض الإنتانية ذات الأسماء الغريبة التي لا يمكن أن تخطر ببال، مثل حمى الخنادق والحمى الصفراء ، وحمى عضة الجرذ وما إلى ذلك. وكنا قد ذكرنا أن الأمر كثيراً ما يكون متعلّق بعوامل تاريخية ابتدأ معها الاسم وظل مرتبطاً بمرض معيّن.
وإذا كان العامل التاريخي مهماً في أسماء بعض الأمراض، فإن العامل الجغرافي أيضاً لا يمكن أن نتجاهله. فهنالك أمراض في العالم يحاول كل بلد أن يعطيها اسمه، ويظن أهل هذا البلد في بداية الأمر أن هذه الأمراض موجودة لديهم فقط، ولكن الحقيقة هي أنها منتشرة في عدة بلدان ويعاني منها الكثير من الناس. والمرض الذي نتكلّم عنه اليوم هو مثال على هذا النوع من الأمراض. بعض الناس يسمونها (حمى قبرص) وآخرون يسمونها (حمى جبل طارق) وفي أوربا تسمّى (حمى نابولي) وفي بقاع أخرى تعرف باسم (حمى البحر المتوسط غير العائلية) ويطلق عليها المزارعون في بلدان مختلفة من العالم اسم (حمى الماعز) وأما علماء الأمراض الإنتانية والجراثيم فيعرفونها باسم (البروسيلا). وإن كنت تظن أن هذه المجموعة تمثل كل الأسماء التي تعرف بها الحمى المالطية فأنت مخطئ جداً، ولكنني لم أشأ أن أتابع سرد الأسماء حتى لا نضيع عن الموضوع الأصلي.
الحمى المالطية
سنعتمد في هذه المقال على اسم (الحمى المالطية) لسبب بسيط وهو أن أغلب الأطباء في بلادنا يعرفونها بهذا الاسم، وهذا هو الاسم الذي اعتدنا عليه منذ أيام كلية الطب. إن هذا المرض يختلف بين الكبار والأطفال. في الأطفال هو عبارة عن مرض عابر محدد لذاته، بينما قد يتحوّل في الكبار إلى مرض مزمن. وإن كان الأمر يعتمد على نوع الجرثوم المسبب. حيث أن هنالك أربعة أنواع من جراثيم الحمى المالطية (البروسيلا) وكل منها له خصائص ولكننا لن ندخل في هذه التفاصيل.
طبيعة المرض
إن الحمى المالطية هي عبارة عن مرض يصيب الحيوانات في الأصل، سواء الحيوانات البرية أو الداجنة. ويعتبر الإنسان (مضيفاً عابراً) لجراثيم هذا المرض، ويصاب من خلال التماس مع الحيوانات المصابة أو مفرزاتها أو استهلاك لحومها وألبانها وأجبانها غير المبسترة. وبطبيعة الحال فإن هنالك زيادة في الخطر عند أولئك الذين تتطلّب أعمالهم التماس مع الحيوانات بشكل مستمر كعمال المزارع والبيطريين وعمال اللحوم. وتتنوّع طرق انتقال الجرثوم سواء من خلال التماس مع جرح مفتوح لدى المصاب أو من خلال استنشاق الجراثيم أو الطريق الفموي المتمثل بتناول اللحوم والألبان، وحتى من خلال تماس الجراثيم مع ملتحمة العين. ونذكر هنا أن انتقال المرض من إنسان إلى آخر يحصل ولكنه نادر جداً.
الأعراض
إن أعراض الحمى المالطية غير نوعية، وهي تشمل ارتفاع الحرارة والتعرّق الليلي والضعف والآلام العضلية ونقص الشهية والوزن وآلام المفاصل والألم البطني والصداع. وقد يحصل تضخم في العقد اللمفاوية والكبد والطحال . وفي حالات نادرة قد تحصل مضاعفات خطرة كالتهاب السحايا والتهاب شغاف القلب والتهاب العظم والنقي. إن هذا التنوع في الأعراض وعدم وجود أعراض نوعية يؤدي في الكثير من الأحيان إلى صعوبات تشخيصية. حيث أن هذه الأعراض هي مشتركة بين الكثير من الأمراض. فارتفاع الحرارة والآلام العضلية وغيرها قد تجعل الطبيب يشتبه بوجود الإنفلونزا مثلاً. كما أن تضخم العقد اللمفاوية والكبد والطحال قد يوجه الطبيب إلى الأمراض الدموية والسرطانية. أما المضاعفات النادرة كالتهاب الشغاف والتهاب السحايا، فإنها تأخذ الطبيب بعيداً جداً عن التشخيص. ومن هنا تأتي أهمية الحصول على قصة مرضية دقيقة للوصول إلى التشخيص.
الانتشار
ليست الحمى المالطية داءً واسع الانتشار في العالم الغربي. ففي الولايات المتحدة ــ على سبيل المثال ــ هنالك 100 حالة فقط في كل عام منها 10 حالات تحت عمر 19 سنة. وبالتالي فهي تعتبر داءً نادراً. ويضاف إلى ذلك أن معظم الحالات الحاصلة تحدث بعد السفر إلى البلدان الموبوءة بالمرض. أما في الدول النامية فلا يزال المرض موجوداً وإن كانت الإحصاءات في تلك البلدان غير كافية لتعطي أرقاماً محددة.
فترة الحضانة
تختلف فترة الحضانة ــ وهي الفترة الفاصلة بين التعرّض للجرثوم وظهور الأعراض ــ من اسبوع إلى عدة أشهر، ولكن في معظم الحالات فإنها تتراوح بين 3 ــ 4 أسابيع. وفي حال تطاول فترة الحضانة إلى أشهر فإن التشخيص قد يكون صعباً. ففي كثير من الحالات لا يتذكر المريض أنه قد تناول حليب الماعز مثلاً منذ أشهر أو أنه لا يتذكر أنه قد زار مزرعة صديقه على سبيل المثال وكان على تماس مع الحيوانات. وفي مرض تعتبر فيه القصة أمراً هاماً في التشخيص، فإن الطبيب قد يواجه صعوبة في مثل هذه الحالات في الوصول إلى قرار .
التشخيص
إن التشخيص يعتمد كما قلنا على وجود قصة سريرية تؤدي إلى البحث في الاتجاه الصحيح. فالتماس مع الحيوانات هو مفتاح هام للوصول إلى حقيقة الأمر. وهنالك العديد من الفحوص المخبرية التي تعطي التشخيص الدقيق. وإن أهم هذه الفحوص بطبيعة الحال هي زرع الدم ولكن المشكلة فيه هو الحاجة إلى فترة طويلة لحصول نمو الجراثيم وقد تصل إلى 4 أسابيع، مما يجعل هذا الاختبار قاصراً لأن الطبيب بحاجة إلى بدء المعالجة بسرعة. فالتأخر ببدء المعالجة يؤدي إلى حصول الحالات المزمنة. ومن هنا كانت الفحوص المصلية التي لا تعتمد على نمو الجراثيم بقدر ما تعتمد على (التعرّف) عليها بوسائل مناعية خاصة. وعند تأكيد التشخيص بهذه الوسائل فإن المعالجة الدوائية تبدأ فوراً.
المعالجة
إن المعالجة المطوّلة بالمضادات الحيوية هي أمر لا بد منه للوصول إلى الشفاء. ونذكر هنا أنه كثيراً ما يحصل النكس عند معالجة الحمى المالطية، وليس السبب في ذلك حصول مقاومة من قبل الجراثيم بقدر ما هو نقص في فترة المعالجة. فالمريض قد يشعر بالتحسّن عن تناول المضادات الحيوية وبالتالي فإنه قد يتوقف عن تناول الدواء وهذا خطأ كبير كثيراً ما يقع فيه المرضى سواءٌ في معالجة الحمى المالطية أو غيرها. إن إتمام الفترة الكاملة للمعالجة الدوائية تماماً كما يصفها الطبيب هو أمر بالغ الأهمية في أي مرض. ويمكن أن نعالج هذا الداء بدواء (دوكسيسيكلين) أو (تتراسيكلين) في المرضى الذي تجاوز عمرهم 8 سنوات لأن التتراسيكلين يؤدي إلى تلوّن الأسنان باللون الأصفر في الأطفال الصغار. وهنالك أدوية أخرى بديلة قد يصفها الطبيب مثل (الباكتريم) الذي يمكن أن نحصل من خلاله على نتائج جيّدة أيضاً. وقد يلجأ الطبيب إلى المعالجة المشاركة التي تعتمد على أكثر من دواء وذلك لتجنّب النكس. وفي حال حصول المضاعفات الخطرة كالتهاب السحايا والتهاب شغاف القلب والتهاب العظم والنقي، فإن الأمر يقتضي القبول إلى المستشفى والمعالجة بالأدوية الملائمة عن طريق الوريد. وبعد تحسّن المريض فإن الدواء يعطى عن طريق الفم ولمدة طويلة قد تصل إلى عدة أشهر.
التخلّص من المرض
إن استئصال شأفة الأمراض التي تصيب الحيوانات والإنسان مثل الحمى المالطية تعتمد على اتخاذ إجراءات صحية شاملة تبدأ بالحيوانات ومعالجتها من خلال مراقبة بيطرية شاملة للمزارع وأماكن ذبح الحيوانات وتحضير لحومها، وتمتد إلى معامل الألبان وأساليب تعقيم الألبان والأجبان وتطوير أساليب البسترة، ومنع التسويق غير القانوني للحوم والألبان والأجبان. لقد تمكّن العالم الغربي من التخلّص تقريباً من هذا المرض من خلال اتباع هذه الوسائل الصحية الأساسية. وللأسف ففي البلدان النامية ومنها البلدان العربية، فإن الرقابة على هذه الأمور لم تصل إلى الوضع المثالي بعد نتيجة لعدم وجود التعاون بين الهيئات الصحية التي تعمل كل منها بشكل منفرد. إن داء الحمى المالطية هو مثال حي على المرض الذي لا يتم التخلّص منه بالدواء فقط ولكن بالتعاون بين جميع الهيئات الصحية للقضاء على مرض يبدأ عند الحيوانات وينتقل إلى الإنسان بطرق مختلفة.