تاريخ شلل الأطفال…. صفحات لا تنسى!
الابتكارات العظيمة في تاريخ البشرية كلها منافع. ولكن لها سيئة واحدة، وهي أنها تجعلنا ننسى بسهولة كيف كانت الحياة قبلها. والقضاء على مرض خطر وشرس أمر عظيم، ولكن علينا ألاّ ننسى ما عانته البشرية من ويلات قبل القضاء عليه. وبالتالي فإننا نتمتع أكثر بنعمة التخلّص منه، ونعرف قيمتها.
والأمثلة على ذلك كثيرة جداً في تاريخ الطب. وإن كان لنا أن نختار، فربما كان مرض شلل الأطفال مثالاً ممتازاً لتوضيح الفكرة. فلعل الاطّلاع على تاريخ هذا المرض يجنبنا أن نأخذ أمر التخلّص منه كأمر مسلّم به. ويجعلنا نقدّر النعمة الإلهية العظيمة التي ننعم بها …. أطفال أصحاء لا يعانون من مرض يعتبر من أكثر الأمراض التي عانت منها البشرية وطأة. وبطبيعة الحال فإن هذا المرض الفتاك كانت له قصص في كل أنحاء العالم، ونحن نذكر اليوم قصته في أمريكا لأنه من الصعب أن نذكر تاريخه في كل بلد من بلدان العالم على حدة.
المرض يصل أمريكا
كان الظهور الكبير الأوّل لمرض شلل الأطفال في أمريكا في عام 1916، حيث أصيبت البلاد بوباء بدأ في مدينة نيويورك ثم انتشر منها إلى أنحاء أمريكا حيث أدّى إلى وفاة 6000 مريض وإصابة 27000 من المرضى بالشلل وكان معظم هؤلاء المرضى من الأطفال. وهنا نذكر بطبيعة الحال أنه على الرغم من كون المرض يسمى (شلل الأطفال) فإنه يمكن أن يصيب الناس في أي عمر علماً بأن اسمه باللغة الإنكليزية ليست فيه أيّة إشارة إلى معنى (الأطفال) فهو يدعى poliomyelitis وهذا يعني حرفياً (التهاب المادة الرمادية في النخاع الشوكي). فكلمة polio هي يونانية الأصل وتعني (الرمادي) كما أن myelitisتعني التهاب النخاع. علماً بأنّه يدعى في أمريكا polioاختصاراً.
بين عامي 1916 و 1954 أصبح المرض يحصل على شكل هجمات صيفية تبلغ أوجها في شهري تموز وآب. وقد أظهرت التحريات التي أجريت في المخابر في كافة أنحاء العالم أن المرض ناجم عن فيروس له ثلاث سلالات وأن الانتقال كان من خلال ما يدعى بالطريق (الفموي البرازي) حيث كان ينتقل بالطعام والشراب والتماس المباشر.
وحل الذعر في كافة أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية في الثلاثينات والأربعينات. حيث كان كثير من الأهل يمنعون أطفالهم من مغادرة المنزل طيلة الصيف. كما تم إغلاق الكثير من دور العرض السينمائي والمسابح وغيرها من أماكن التسلية. وكان أي مرض يؤدي إلى ارتفاع الحرارة لدى الأطفال ينظر إليه بعين الريبة ويشك أنه حالة من شلل الأطفال حتى يثبت العكس. وامتلأت غرف العزل في المشافي الأمريكية في الصيف بالأطفال المصابين بالمرض. ولم يكن هنالك أي علاج أو وقاية. وكان الجراحون يقومون بتثبيت أطراف الأطفال المصابين لمنع التشوهات، ولكن عبثاً. فقد أصيب الكثير من الأطفال بالشلل والتشوّه الدائم. وأصيب بعض الأطفال بما يسمى (الشلل البصلي) الذي يؤدي إلى توقف التنفس لدى الطفل، وكان الأطفال يوضعون في جهاز خاص يسمى (الرئة الحديدية) يساعدهم على التنفس.
إليزابيت كني
في عام 1940 قدمت الممرضة الأسترالية Elizabeth Kenny خدمة لمرضى شلل الأطفال حيث قامت بتصميم نظام علاجي يعتمد على الكمادات الدافئة والتمسيد (المسّاج) في مراحل مبكرة من المرض لمنع التشوهات والشلل. وكانت أجنحة المعالجة في المشافي في الأربعينات تتميز بالرائحة الخاصة لما يدعى (كمادات كني) المصنوعة من الأغطية الصوفية الرطبة المدفأة التي كانت تغطى بها أجسام المرضى.
إن الطور الحاد الحراري للمرض يستمر 7 ــ 10 أيام. وبعد أن تزول الحرارة يتوقف تطوّر الشلل. وكان الأطفال ينقلون عندئذٍ إلى وحدات التأهيل الفيزيائي. وتم تصميم العديد من الأجهزة الطبية التي تساعد على التغلّب عن العجز الناجم عن الشلل. وتم تطوير أجهزة التنفس الصناعي التي يتم استخدامها ريثما يستعيد الطفل قدرته على التنفس. وقد كان الكثيرون من الأطفال يستعيدون قدرتهم على التنفس. أما أولئك الذين لم يستعيدوا تلك القدرة فكانوا يفقدون حياتهم.
فرانكلين روزفلت
كان العبء المالي على الأهل كبيراً نتيجة للتكاليف العالية للمعالجة. وقد قامت الجمعيات الأهلية بمساندة كبيرة من الرئيس فرانكلين روزفلت بحملات لجمع المال كان أهمها ما يدعى (مسيرة العشرة سنتات) لدعم العائلات المنكوبة مالياً بسبب المرض وقد قامت بهذه الحملة المؤسسة القومية لشلل الأطفال. وقامت المؤسسة بتمويل الكثير من الأبحاث التي كانت تهدف للحصول على وقاية أو معالجة للمرض القاتل. وقد آتت هذه الأبحاث أكـُلـَها لتثبت أن التكاتف الاجتماعي بشأن أي مشكلة يواجهها المجتمع يؤدي إلى الحصول على حلول.
الدكتور جوناس سالك
يعتبر الدكتور Salk أحد الأسماء التي لا تنسى في تاريخ الطب. فقد ابتكر ما بين عامي 1948 و1954 لقاح شلل الأطفال الذي يعتمد على الفيروسات المقتولة ويعطى حقنا تحت الجلد.وكان الدكتور فردريك روبينز والدكتور توماس ويلر قد ساهما مساهمة كبيرة في هذا الإنجاز على الرغم من كونهما اسمين مغمورين اليوم في تاريخ الطب. وكانت مساهمتهما قد تجلّت بتمكنهما من زراعة فيروس شلل الأطفال على كلية القرد مما مكن الدكتور سالك من التعرّف على خصائص الفيروس مما أدى إلى تطوير اللقاح. وكانت النتائج المبدئية للقاح مشجعة فعلاً، فتم تشكيل لجنة في عام 1954 قامت بتطبيق ميداني للقاح على ما يقارب 2 مليون طفل.
الدكتور آلبرت سابين
كان الدكتور Sabin يعمل بشكل مستقل عن الدكتور سالك، وقد قام بابتكار لقاح آخر يعتمد على الفيروسات المضعفة الحية ويعطى عن طريق الفم. وقد تمت تجربة اللقاح في الاتحاد السوفيتي السابق أوّلاً ثم تم استخدامه في الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1961. وبطبيعة الحال فإن اسم الدكتور آلبرت سابين أصبح من الأسماء الكبيرة في تاريخ الطب. وتم اعتماد لقاحه كبديل عن لقاح سالك لفترة طويلة جداً امتدت حتى عام 2000 تقريباً حيث تمت العودة بعد ذلك إلى لقاح سالك. والفرق بين اللقاحين هو أن لقاح سابين هو لقاح مضعف، أي أن الفيروس يكون فيه حيّاً، وبالتالي فإنه قد يؤدي إلى شكل خفيف من المرض. والنقطة الإيجابية فيه هو أنه يؤدي إلى التمنيع السلبي، أي أن المناعة تنتقل من طفل إلى آخر بالطريق نفسه الذي ينتقل فيه المرض (أي الفموي البرازي) وبالتالي ففي حال وجود أطفال غير ملقحين في المجتمع فإنهم سيحصلون على المناعة من الأطفال الآخرين.
أما لقاح سالك فهو يعتمد على الفيروس المقتول، وبالتالي فإنه لا يؤدي إلى انتقال المناعة من طفل إلى آخر، ولكن له إيجابية كبيرة وهي أنه لا يؤدي إلى حالات الشلل الخفيف الناجم عن اللقاح والذي قد يحصل في حالات نادرة. وبعد نقاش طويل واطلاع على خبرة بلدان أخرى متطوّرة طبياً مثل السويد، قررت السلطات الصحية الأمريكية العودة إلى استخدام اللقاح المقتول الذي يعطى حقناً ويدعى لقاح سالك. وهو الذي يتم استخدامه الآن على نطاق واسع، مع استخدام محدود للقاح سابين.
مرض لم يعد موجوداً
لقد حصل الانتصار على مرض شلل الأطفال في أمريكا خلال فترة تقارب خمسين عاماً. فنتيجة لاستخدام اللقاحات على شكل واسع، فإن هذا المرض لم يعد موجوداً في أمريكا من وجهة النظر العملية. وهذا الأمر ينطبق أيضاً على معظم دول العالم المتقدم. ففي أمريكا على سبيل المثال يبلغ عدد المصابين في كل عام حالياً 6 ــ 8 مرضى. وهؤلاء هم أطفال مصابون بضعف المناعة وقد أصيبوا بالمرض ليس نتيجة لعدوى، ولكن نتيجة لإعطائهم لقاح شلل الأطفال المضعف. إنها لنعمة عظيمة حقاً أن ننظر اليوم إلى أطفالنا الذين ينعمون بالصحة والعافية، ومن الأمور التي تدعو إلى السرور الغامر أننا اليوم لسنا قلقين بشأن إصابة أطفالنا بمرض مخيف يدعى شلل الأطفال كما كان الآباء والأمهات يعانون في الثلاثينات والأربعينات من هذا القرن. إن معرفة التاريخ الرهيب لهذا المرض القاتل تجعلنا نستمتع أكثر بهذا الإنجاز الكبير. أليس كذلك؟!