تعالوا نتخلّص من الإدمان على (المضادات الحيوية)!
كان أحد أساتذتنا القدامى في كلية الطب بجامعة دمشق كثيراً ما يروي قصصه المثيرة والطريفة عن أساليب العلاج التي كانت متبعة في بدايات القرن الماضي. وكان يذكر لنا كيف أنه ــ بعد أن تخرّج من (المعهد الطبي العربي) في دمشق ــ والذي كان من أوّل كليات الطب في الوطن العربي ــ كان يعالج مرضاه المصابين بالسل (التدرن الرئوي) بحقن من (الكلس) حيث كان الأطباء يعتقدون أن هذه الحقن ربما ساعدت على تكلّس الآفات الرئوية وبالتالي في تسريع الشفاء. وعندما كان الأستاذ ــ رحمه الله ــ يرى في عيوننا ،نحن الطلاب الجدد الذين لم نكن نعرف شيئاً عن تاريخ الطب، نظرات الاستغرب والدهشة، كان يقول لنا : لا تستغربوا فقد كان ذلك قبل (عصر الصادات)! والصادات بالطبع هي (المضادات الحيوية) التي نقوم اليوم بوساطتها بمكافحة الجراثيم. وقد أثارت تلك القصة لدي في ذلك الوقت سؤالاً مشروعاً: متى بدأ عصر الصادات؟
ألكسندر فلمنغ
في عام 1928 عندما كان (السير) ألكسندر فلمينغ يجري أبحاثه الجرثومية لاحظ أن بعض (العفن) قد تشكّل بشكل عفوي في أحد (أطباق) المزارع الجرثومية لنوع من الباكتريا يسمى (المكوّرات العقدية). العفن أزعج فلمينغ بعض الشيء، ولكنه لم يكن يدري أن هذه البقعة البسيطة من العفن ستكون السبب في أحد أهم الاكتشافات الطبية على مدى العصور!
لقد لاحظ فلمينغ أن العفن قد شكل حوله هالةً لم تنبت عليها الجراثيم. وهنا خطرت له فكرة قدر لها أن تكون من أكثر الأفكار أثراً في تاريخ الطب كله. فقد سأل نفسه هل من الممكن أن يكون للعفن تأثير مضاد للجراثيم؟ وإذا كان الأمر كذلك، أفلا يمكن أن يستفيد الطب من هذه الميزة في مكافحة الإنتانات والالتهابات التي لم يكن لها أي دواء حتى ذلك التاريخ؟
وعمل فلمينغ بعد ذلك واستمر بالتجارب العديدة التي توّجت في النهاية باكتشاف ما أسماه دواء (البنسلين)، وكان ذلك بداية لما دعاه أستاذنا (عصر الصادات)! وإذا كان البنسلين هو أول (المضادات الحيوية)، فقد كان فاتحةً لاكتشاف العلماء لعدد هائل منها بحيث أنها أصبحت اليوم مقسمة إلى فئات عديدة و غدت تعد بالآلاف.
قصة ثالثة
هاتان القصتان المرتبطتان إحداهما بالأخرى تخطران في بالي دائماً كلّما جرى حديث بيني وبين أحد الأصدقاء أو الزملاء عن الصادات، وتخطر في بالي قصة ثالثة أيضاً. فبعد أن انتشرت الصادات بدأ استخدامها في دول العالم كلّه ومنها دول الوطن العربي، ولم يعد السل في بلادنا يعالج بحقن الكلس الوريدية، بل أصبح يداوى بصاد جديد اسمه (الستربتومايسين). فالوطن العربي الذي يستورد السيارات والقطارات والقمح (وحتى الماء!) أصبح يستورد الصادات أيضاً.
وإذا كانت الصادات في بلاد العالم كلّها لا تباع إلا في مكان واحد يسمى (الصيدليات) فإنها أصبحت تباع في بلادنا العربية إضافة إلى الصيدليات في أماكن لا تخطر على بال! فأصبح بإمكانك أن تشتري هذه الأدوية عند الحلاّق مثلاً (والذي كان يحلق الرؤوس ويقللع الأضراس أيضاً) كما أنه أصبح بإمكانك أن تشتريها من البقال أيضاً!
وإذا كانت الصادات تستخدم في كل بلاد العالم بإشراف الطبيب لعلاج الإنتانات الجرثومية، فإنها في بلادنا أصبحت تستخدم بإشراف ودون إشراف ولعلاج أي مرض يمكن تصوّره! فقد أصبح الناس يظنون أنها دواء سحري مماثل لما كان يطلق عليه اليونان اسم Panacea والذي يترجم على أنه (دواء لكل داء).
وقد كان أحد الأقرباء يروي لي أن والده العجوز كلما أحس بصداع (نعم الصداع الذي هو عبارة عن ألم في الرأس!) كان يقول له: تعال يا ولد! اذهب إلى (دكان) عمّك (أبي فارس) واشترِ منه (حبتين) من (السولفاديازول) والذي هو أيضاً أحد الصادات! وأن زوجته ــ فيما بعد ــ كانت تطلب منه كلّما أحست بألم في ظهرها أن يذهب إلى الصيدلي ليحضر له بعضاً من (حبوب الخمسميّة) فعيار الكثير من الصادات كان 500 ملغرام والدقة أمر مهم كما هو معلوم!
الإدمان
وإذا سألتني عن السر الذي دعاني إلى ذكر هذه القصص الثلاث الآن، فإنني أقول لك إن السبب في ذلك هو أن مفهوم الصادات عند بعض الناس لم يتغيّر كثيراً عن مفهوم الرجل العجوز الذي كان يرسل ولده لشراء أقراص (السولفاديازول) من (دكان) البقال أبي فارس! فبعض الأمهات يعتقدن أن العلاج الوحيد الموجود في الدنيا هو المضادات الحيوية، وأنه لا يمكن الحصول على شفاء لأي داء دون تناول هذا (الباناسيا) السحري!
قصص لا تعد
ولو شئتُ أن أروي جميع القصص التي تحدث معي في العيادة ــ وبشكل يومي ــ مما يؤيّد كلامي هذا لما اتسع لها هذا المقام، بل لما اتسعت لها المجلدات. فأنا أرى في كل يوم حكايات تشيب لها الولدان مما يتعلّق بهذا الأمر. ولكن يكفي أن أذكر المفهوم العام لها. فالكثير من الأمهات يأتين إلى العيادة لا بشكوى تحتاج إلى أسئلة وأجوبة وبحث وتشخيص ثم إلى علاج، بل يأتين (بطلب) يحتاج إلى وصفة بسيطة للصادات. فهن لا يذكرن لي شيئاً مما يعاني منه الطفل، هل هو حرارة أم ألم في البلعوم أم انزعاج في البطن أو غير ذلك بل إن كل ما يفعلنه هو أن يأتين إلى العيادة ويطلبن مني وصفة للصادات! بل إن بعضهن لا يزعجن أنفسهن حتى بإحضار الطفل إلى العيادة بل يأتين ويطلبن الوصفة، ثم إن بعضهن يختصرن الطريق ويتركن لي رسالة مع (السكرتيرة) مفادها أن المطلوب مني أن أتصل بالصيدلي (فلان) ليعطيهن أحد الصادات لمعالجة طفلهن بمعرفتهن!
ليست دواءً سحرياً!
عندما أحاول أن أقنع بعض الأمهات بأن الصادات ليست دواءً سحرياً أجد لدى بعضهن التفهّم لهذا الشرح، ولكنني في بعض الحالات لا أجد إلا الاستغرب والاستهجان! فاستخدام الصادات قد أصبح إدماناً حقيقياً لدى الكثير من الأمهات والآباء بالنيابة عن الأطفال!
وأذكر هنا ــ على سبيل المثال وليس مطلقاً على سبيل الحصر ــ أنني في إحدى المرات قلت لأم من الأمهات إن طفلها مصاب بالتهاب المعدة والأمعاء الفيروسي ونصحتها باتباع حمية وأعطيتها وصفة لبعض السوائل الفموية المغذية.
وعندما نظرت إلى الوصفة قالت لي: لقد أنقصت شيئاً هاماً يا دكتور!
قلت: وما هو؟
قالت: الصادات!
قلت: ولماذا الصادات؟
قالت: ألم تقل لي بنفسك إن طفلي مصاب بالتهاب المعدة والأمعاء؟
قلت: بلى!
قالت: وكيف تتم معالجة الالتهاب دون الصادات؟!
وكل ما أحاول أن أقوله في هذا الموقف وما يشابهه هو أن الصادات إنما تستخدم لمعالجة الإنتانات الجرثومية، فليس كل التهاب إنتاناً، كما أنه ليس كل أنتان هو إنتان جرثومي. فالرشح على سبيل المثال هو إنتان، ولكنه إنتان فيروسي ولا يمكن أن يعالج بالصادات وكذلك التهاب المعدة والأمعاء. وفي كثير من الأحيان ــ وبعد كل هذا الشرح ــ تخرج الأم مستاءةً لأنني لم أصف لطفلها الصادات مع أنه يحب (الشراب ذا اللون الأحمر)!
التخلّص من الإدمان!
إن من المهم أن يعرف المريض أن استعمال الصادات في غير موضعه يضر بالمريض كما أن عدم استخدامها يؤذيه في حال وجود الضرورة. وربما كان أبسط الأضرار أن الطفل ــ في حال الاستخدام المتكرر وغير الضروري للصادات ــ لا يستفيد منها لاحقاً حين تقتضي الحاجة استخدامه.
إن الصداع لا يعالج بحبوب (السولفاديازول) وألم الظهر لا يطبب بأقراص (الخمسميّة) والرشح لا يداوى بالــ (طورومايسين) ولا بالــ (كذاسيلين)، كما أن الشراب الأحمر ليس ضرباً من الحلوى وعيادة الطبيب ليست (دكان أبي فارس)!
وفي كثير من الأحيان أسائل نفسي: ترى لو أن الدكتور فلمينغ ــ الذي ولد عام 1881 وتوفي عام 1955 ــ قد علم أن البنسلين وأشباهه أصبح في بلادنا يباع لدى الحلاقين والبقالين وتحضره الأمهات لأطفالهن كما يحضرن لهم الحلوى، هل كان أتم اختراعه ونشره بين الناس أم أنه كان قد أعلن عن سحبه من الأسواق؟ مجرد سؤال!