حكاية الطعام العضوي

 


 


حكاية الطعام العضوي


Organic Food


 


من قال إن الموضة تقتصر على عالم الأزياء؟ الأغانيّ فيها موضة… والأدب فيه موضة… والسيّارات فيها أيضاً موضة…. وأخيراً وليس آخراً الطعام فيه موضة أيضاً. العالم الغربي يعيش على الموضة  التي تغيّر اسمها فأصبح يطلق عليها كلمة (الحمّى)…. الكلمة التي حلّت محل كلمة  الموضة ربما منذ أن أطلق منقرض الذكر (جون ترافولتا) اسم (حمى ليلة السبت) على أشهر أفلامه.


 


عالمنا اليوم  إذاً لا يستطيع أن يعيش دون حمّى. وإذا أردنا أن نجعل القصة الطويلة قصيرة ــ كما يقال في اللغة الإنكليزية ــ فحكايتنا اليوم عن الطعام العضوي.


 


 


في جميع الأسواق


 


لا يمكن اليوم أن تسير في أي من محلات (السوبرماركت) دون أن تجد رفوفاً خاصة لما يدعى الطعام العضوي. ولا يقتصر الأمر على رفوف الخضار والفاكهة بل إنه يتعدى ذلك إلى الحبوب  والأطعمة الأخرى وبالذات اليوم في أطعمة الأطفال. لدرجة أن الشركات الكبرى المشهورة بصناعة هذا النوع من الأطعمة أصبحت تنتج بعض المنتجات الخاصة كحليب الأطفال وغيره وأصبحت تتفاخر بأن هذا الطعام (عضوي)!!  وأصبح الناس يقبلون عليه بشكل كبير لدرجة اعتباره طعاماً مقدّساً. فما مدى قدسيّة هذا الطعام فعلاً؟ وهل أن الشركات التجارية تقدمه إيماناً منها بفائدته الكبرى أم أن الأمر متعلّق بالحاسة التجارية لدى هذه الشركات والتي تستطيع أن تشتم رائحة الإقبال لدى الزبون مهما كان مقدارها؟


 


أسئلة


 


هذا المقال هو في حقيقة الأمر إجابة على أسئلة كثيرة وردت إليّ من خلال الممارسة من عائلات مثقفة وواعية تريد الأفضل والأمثل لأطفالها. وعندما يطرح سؤال  بهذه الكثافة والإصرار فلا بد أن يكون هنالك جواب. وما أصعب الأمر عندما لا يوجد هنالك جواب شافٍ فعلاً. ولكن الأمور بدأت تصبح أكثر وضوحاً هذه الأيّام.


 


ما هو الطعام العضوي؟


 


قبل أن نجيب على السؤال فلا بد من أن نشرح متنه أوّلاً. فما هو الطعام العضوي فعلاً؟ لقد بدأت فكرة الطعام العضوي تنتشر على نطاق محدود منذ نهاية القرن الماضي وبدأت تأخذ منحىً تصاعدياً في بداية قرنا الحالي الذي مضت من عمره سبع سنوات. وكان السبب في الانتشار واضحاً تماماً. العالم مغمور بالكيماويّات. جميع النباتات تنمو مثلاً من خلال التغذية بالسماد الكيماوي. وعندما تنمو فلا بد أيضاً من مكافحة الحشرات التي تتطفل عليه بالمضادات الكيماوية . وبالتالي فإن فكرة المواد  الكيماوية أصبحت مخيفة إلى درجة أن العلماء وأنصار البيئة بدؤوا يفكرون بطعام (نقيّ) بعيدعن هذه الكيماويات. الفكرة مشروعة تماماً إذاً. وهي أيضاً مغرية. فمن يستطيع أن يتناول طعاماً نقيّاً خالياً من الكيماويات ثم يقبل على طعام ملوّث؟ ولكن كيف السبيل؟


 


الرخصة


 


قبل أن تحصل أية مزرعة على رخصة تسمح لها بوضع كلمة (طعام عضوي) على منتجاتها فلا بد من الحصول على الرخصة. هذه الرخصة تتطلّب (تنقية) الأرض من المواد الكيماوية وهي عملية معقّدة تحتاج لسنوات. وخلال هذه السنوات لا يتمكن أصحاب الأرض من إضافة أية مواد كيماوية إلى التربة. وبعد هذه السنوات يتم تحليل التربة من قبل الجهات المختصة وتعطى الرخصة للمستثمرين. ولا بد بعد ذلك من تفتيش دوري للمحافظة على هذه الرخصة. بطبيعة الحال فإن هذه العملية مكلفة للمنتجين الذين عليهم أن يتحمّلوا توقف الإنتاج لسنوات. ولذلك ينعكس الأمر في النهاية على المستهلك الذي عليه أن يخرج من جيبه الدولارات الإضافية ليدخل في (جنة الطعام العضوي). وكما هو الحال في جميع السيناريوهات المشابهة، فبعد أن تجتاح الحمى الأسواق والمجلات والصحف يبدأ الناس بطرح سؤال مشروع بمقدار مشروعية الإقبال على الأطعمة العضوية نفسها…. هل يستحق الأمر هذا العناء؟ ما هي الفوائد الحقيقية التي يحصل عليها الإنسان من الأطعمة العضوية؟ وهل هي منتجات منقذة للحياة من براثن المواد الكيماوية .. أم أن الإنسان ينتقل من خلال تناولها إلى براثن أخرى تجارية؟ هل الأمر هو انتقال (تحت الدلف إلى تحت المزراب)؟ وهل جميع الأطعمة العضوية متساوية في فائدتها إذا كانت هنالك فائدة أصلاً؟


 


 


الفائدة والضرر


 


ربما كانت بعض الأطعمة العضوية (ألذ طعماً) من نظائرها اللاعضوية … وهذا بحد ذاته سبب يدعو الكثيرين لشرائها والإقبال عليها. وكذلك فإن تجنب الأسمدة ومضادات الحشرات الكيماوية هي أمور مغرية تماماً. ولكن الدراسات  تقول إنه لم يثبت حتى الآن أي دليل على ضرر ــ بعيد المدى ــ للمنتجات الكيماوية المرخصة من قبل الهيئات الصحية المختصة. وبمعنى آخر فإن الأطعمة العضوية حسب بعض الآراء لا تضر طبعاً… ولكن لم يثبت ثبوتاً قاطعاً أنها تفيد!! ومن حيث المحتوى الغذائي والفيتاميني فإن أغلب الدراسات لم تبيّن أية فروق أو أنها بيّنت فروقاً ضئيلة جداً بين الأطعمة العضوية واللاعضوية وخصوصاً من حيث وجود الفيتامين (سي) ومضادات التأكسد.


 


 


دراسة  علميّة


 


في الفترة الأخيرة صدرت عن جامعة كاليفورنيا في مدينة (ديفيز) دراسة فريدة من نوعها أضافت إلى معلوماتنا عن الأطعمة  العضوية. مدة هذه  الدراسة هي عشر سنوات، أي أنها أطول دراسة من نوعها، وتمت من خلالها مقارنة محتوى البندورة من نوعين من مضادات التأكسد (المفيدة في الوقاية من السرطان والأمراض القلبية). وبالطبع تمت المقارنة بين البندورة العضوية ونظيرتها اللاعضوية. وقد وجدت الدراسة أن محتوى النوع العضوي من هاتين المادتين وهما (كورستين) و (كمفرول) هو أعلى من ذلك الموجود في نظيره اللاعضوي وبنسبة عالية بلغت 79 في المئة بالنسبة للأوّل و97 في المئة للثاني. وهذه نسبة هامة تماماً. وقد وجدت هذه الدراسة أنه كلما كانت نوعية  التربة أفضل كلما كان المحتوى من هاتين المادتين أعلى.


 


جواب غير شافٍ


 


بعد دراسة طولها عشر سنوات فإن هذه الفائدة التي تم العثور عليها هي فائدة ضئيلة في نظر الباحثين لأنها لا تبرر الحمى  الضخمة التي يتمتع بها الطعام العضوي لدى الناس. فالدراسة تمت في ظروف خاصة ومتحكم بها ولا توجد ضمانات أن تكون الشروط نفسها متوفرة في كل مزرعة عضوية. يضاف إلى ذلك أن ما يتحقق في ثمرة  النبات (البندورة في مثالنا) لا ينطبق بالضرورة على نبات يتم استهلاك أوراقه كالملفوف مثلاً حيث يحتاج الأمر لدراسة مختلفة.  ويقول العلماء الذين قاموا بهذه الدراسة إن الأمر تغدو له أهمية إذا كان الإنسان سيستهلك قشر الثمرة حيث ترتفع فائدة الطعام العضوي في هذه الحالة… ففي فاكهة كالعنب يكون تناول الطعام العضوي ذا أهمية خاصة  لأنه يخفف من التعرّض للكيماويات ويؤدي إلى تناول الفيتامينات المركزة في قشر حبات العنب.  أما في حال تناول فاكهة كالتفاح بعد تقشيرها فالفائدة يخبو بريقها وتصبح أقل بوضوح. ويضاف إلى ذلك أن على  المستهلك أن يبحث عن مصدر الطعام العضوي. فالطعام الذي يتم شحنه من بلدان بعيدة تقل فائدته بشكل واضح بالمقارنة مع تناول محاصيل يتم إنتاجها ضمن البلاد، فالفيتامينات التي تحويها النباتات العضوية تتحلل مع الوقت وتزول فائدتها.  ويضاف إلى ذلك أن الأطعمة  المصنعة (كالمعكرونة والحليب المجفف والأطعمة المجمّدة) يغدو العامل العضوي فيها قليل الفائدة لأن  التصنيع بحد ذاته يغيّر التركيب الكيماوي للطعام وربما يزيل الفائدة المرجوّة أو يخففها بشدّة.


 


اختبار الوقت


 


لم تكتب هذه السطور لجعل الناس يبتعدون عن الطعام العضوي. فهذا ليس هو الهدف. ولكن الأمر الهام هو أن نعلم أن الطعام العضوي ليس طعاماً سحرياً نقياً صافياً  خالياً من المساوئ. وأن نعلم أن هذا النوع من الطعام يحتاج إلى التفكير أيضاً… بنوعه ومصدره وطريقة تصنيعه إلى آخر هذه الأمور. إن فكرة الطعام العضوي هي مغرية لأي إنسان مهتم بصحّته ولكن علينا أيضاً أن نفهم الطعام الذي نتناوله… ولعل هذه الأفكار التي نطرحها اليوم تساعدنا أكثر على معرفة فائدة هذا الطعام وحدود هذه الفائدة أيضاً. إن الأطعمة  العضوية ربما تكون قد اجتازت بنجاح الامتحان التجاري بعد  أن أصبحت موجودة على الكثير من الرفوف في الأسواق، ولكن عليها اليوم أن تجتاز اختباراً أصعب وأكثر أهمية … هذا الاختبار يدعى  ببساطة (اختبار الوقت)!


 


 

Close Menu