طبق من الفول الأخضر!!
كان وجه (كمال) شاحباً تماماً. قالت لي الأم المذعورة: لاحظنا هذا الأمر اليوم صباحاً. بالأمس كان كمال ضاحكاً سعيداً وفي كامل صحته. كان يركض في المزرعة أمس مع بقية الأطفال ويصيح ويلعب بسعادة بالغة. عندما عدنا إلى المنزل كان متعباً قليلاً، ولم يكن هذا أمراً مستغرباً بعد يوم حافل باللعب والنشاط. اليوم صباحاً أصبت برعب شديد، فعندما خرج إلى الحمام صرخ منادياً لي. وعندما رأيت ما رأيت غاب صوابي.
قلت: وماذا رأيتِ ؟
قالت: لقد كان بوله بني اللون تماماً مثل لون الشاي. عندما نظرت في وجهه رأيت فيه هذا الشحوب الذي تراه. ما هي القصة يا دكتور؟ هل تعتقد أن حشرة ما قد لسعته في المزرعة؟
المزرعة
ــ إلى أي مزرعة ذهبتم؟
* أحد أقربائنا لديه مزرعة تبعد عن ديترويت حوالي مئة وخمسين ميلاً.
ــ وماذا يزرع فيها؟
* هو يزرع بعض الخضار التي تزرع عادة في بلادنا ويقوم ببيعها للمحلات العربية في ديربورن.
ــ مثل ماذا؟
* أنت تعرف. نحن العرب نحب بعض الأنواع الخاصة من الخضار كالباذنجان صغير الحجم والكوسا صغيرة الحجم، وهي تختلف عما يمكن أن يجده المرء في محلات الخضار الأمريكية.
ــ وماذا يزرع قريبكم في مزرعته أيضاً؟
* يزرع فيها الشمندر والبصل الأخضر والنعناع والفجل والأرضي شوكي والفول…..
ــ الفول؟
* نعم!
ــ وهل تناول (كمال) الفول الأخضر أثناء زيارتكم للمزرعة؟
* نعم… هو يحب الفول الأخضر. وصاحب المزرعة كريم جداً. لقد سمح للأطفال بقطف ما يشاؤون من الخضار. وقد قاموا بقطاف كميات كبيرة من الفول الأخضر وقد تناول (كمال) طبقاً كاملاً منه. ولكنني قمت بغسل الفول بشكل جيد بالماء والصابون قبل أن يتناوله، وكذلك قمت بغسل بقية الخضار. وبالتالي فأنا لست قلقة من هذا الأمر. ولكن ما يقلقني هو أن المزرعة فيها الكثير من الخراف والدجاج والبط والدواجن، وقد قام الأطفال باللعب مع هذه الحيوانات. وأخشى ما أخشاه أن تكون الحيوانات قد نقلت له أحد الفيروسات أو الجراثيم فما نسمعه في الأخبار كل يوم عن الأمراض التي تنقلها الحيوانات هو بالفعل أمر مخيف. وأنا لم أكن أدري ما الذي علي أن أفعله اليوم. لذلك أحضرت طفلي إليك.
ــ أنا أعلم ما الذي عليّ أن أفعله الآن.
* وما ذاك؟
ــ سأتصل الآن بفريق الإسعاف ليقوم بأخذ (كمال) إلى مستشفى الأطفال حالاً وسريعاً!!
بعد أن قمت بالاتصال بفريق الإسعاف، سألتني الأم مذعورة: ما هي المشكلة؟ لماذا تريد أن تقوم بنقل (كمال) إلى المستشفى؟
قلت: أعتقد أن طفلك مصاب بمرض يدعى (الفوال)!!
* الفوال؟
ــ نعم.
* وما هو الفوال؟
ــ بعض الناس لديهم نقص في إنزيم خاص اسمه المختصرG6PD وهو موجود في الكريات الدموية الحمراء. هذا الإنزيم يساعد في استقرار هذه الكريات ويحافظ عليها من التمزق، وبالتالي فإنه يصون الدم من الانحلال. وفي حال نقص هذا الإنزيم فإن التعرّض لبعض الأدوية والأغذية يؤدي إلى حصول انحلال في الكرية الحمراء.
* الأدوية؟
ــ نعم فهنالك أدوية مثل الأسبرين وبعض المضادات الجرثومية كالسلفا ، وبعض مضادات الملاريا يمكن أن تؤدي إلى انحلال الدم عند المصابين بهذا المرض.
* وما علاقة الفول بهذا الأمر؟
ــ الفول يحوي مادتين هما (الفيسين) و(الكونفيسين) وهما يقومان بالفعل نفسه الذي تقوم به الأدوية ويؤدي إلى انحلال الكريات الحمراء. وهذا الشكل من المرض موجود في بلاد حوض البحر الأبيض المتوسط ومنها بلادنا.
عندما كانت الأم تحاول أن تسألني سؤالاً آخر وصل فريق الإسعاف وبدأ بإجراءات نقل (كمال) إلى المستشفى.
سألتني الأم ودموعها تسيل على خديها: هل سيكون طفلي بخير؟
قلت: بإذن الله. وسأقوم الآن بالاتصال بطبيب الإسعاف لأشرح له الأمر.
في المستشفى
عندما كنت أزور (كمالاً) في المستشفى مساءً، كان وجهه متورّداً بالمقارنة مع ما كان عليه في الصباح.
قالت لي الأم: لقد قال لي الأطباء في غرفة الإسعاف إننا حضرنا إلى المستشفى في اللحظة المناسبة.
ــ بالتأكيد! لقد ذكر لي الطبيب المقيم أن الهيموغلوبين لديه كان مقداره (4) عندما وصل.
* وهل هذا سيء؟
ــ وخطِر جداً أيضاً ! فالمطلوب في عمر طفلك أن يكون الهيموغلوبين (أي خضاب الدم) حوالي (12) .
* وعلى ماذا يدل هذا الأمر؟
ــ يدل على أن هنالك انحلالاً شديداً في الدم أدى إلى تحطم الكريات الحمراء لدى طفلك.
* الحمد لله على أننا حضرنا في الوقت الملائم.
ــ الحمد لله. لقد قمنا بنقل أربعة أكياس من الدم لطفلك حتى تم إصلاح النقص الشديد في الهيموغلوبين وتم بالتالي رفع الرقم إلى (9).
* وهل هذا كافٍ؟
ــ في الوقت الحاضر هذا رقم ممتاز. وسيقوم الجسم بصنع كميات إضافية من الهيموغلوبين ليعود الرقم إلى الطبيعي خلال أيام.
يوم التخرّج
في اليوم التالي كنت أزور (كمالاً) في المستشفى من جديد.
سألتني الأم: هل ستقوم بإعطاء دواء لطفلي ليشفى من هذا المرض؟
قلت: لا. في حقيقة الأمر لا يوجد أي دواء لمعالجة هذا المرض. كل ما في الأمر هوأنني طلبت من الممرضة أن تعطيك قائمة من الأدوية والمواد التي يجب أن يتجنبها طفلك في المستقبل حتى لا يصاب بانحلال الدم من جديد.
* لقد رأيت طفلين آخرين في هذا الجناح من المستشفى مصابين بالمشكلة نفسها. والذي لفت نظري أنهما من الوطن العربي أيضاً.
ــ هذا ليس مستغرباً. فالمشكلة أكثر شيوعاً في بلادنا منها في غيرها.
* وهل يوجد لدى الشعوب الأخرى؟
ــ نعم … هو موجود لدى اليونان والإيطاليين وبقية سكان البحر الأبيض المتوسط. وهو أيضاً موجود بأشكال مختلفة لدى أهل الفيليبين وبعض الدول الآسيوية. وهنالك أشكال أخرى منه لدى الزنوج. وهي تختلف عن النماذج الموجودة في بلادنا.
* وهل هنالك أنواع للمرض؟
ــ نعم. هنالك حوالي 90 طفرة مختلفة من المرض. ويبلغ عدد المصابين في العالم حوالي 200 مليون.
القائمة
أثناء حديثنا دخلت إحدى الممرضات وقامت بإعطاء الأم قائمة بالأدوية والمواد التي يجب على (كمال) أن يتجنبها. وبعد أن قامت بشرحها للأم، غادرت الممرضة الغرفة. بعد أن قامت الأم بقراءة القائمة قالت لي: إن القائمة تشمل العديد من المواد منها ما سمعت به ومنها ما لم أسمع به، فكيف لي أن أميّز الأمر؟
قلت: هذه القائمة هي تقريبية، وكل ما عليك أن تفعليه هو أن تذكري لأي طبيب قد يعالج طفلك في المستقبل أن طفلك مصاب بالفوال ، وسيعرف الطبيب ما يتجنّبه. هذه القائمة في حقيقة الأمر هي للاطلاع والحذر بالنسبة لك، وهدفها أن تعرفي مفهوم تجنب الأدوية الذي هو في الواقع محور العلاج بالنسبة لكمال.
قالت لي: هذه القائمة كما ترى تذكر الأسبرين وبعض المضادات الحيوية مثل السلفا. وتذكر أيضاً مضادات الملاريا.
قلـت: نعم.
قالت لي: ولكن الغريب في الأمر هو أنها لا تذكر شيئاً عن الفول الأخضر!!
قلت لها: إن هذه القائمة محضرة بشكل عام للمرضى من جميع أنحاء العالم. والفول الأخضر ليس مادة طعامية شائعة الاستعمال في أمريكا. ولهذا لم تذكرها القائمة. الفول يزيّن موائدنا العربية التي تتميّز به عند الإفطار، وفي الوجبات الأخرى. وهو من ميزات مطبخنا الشرقي.
قالت لي الأم باسمة: الحمد لله. على الأقل لا تزال لدينا أشياء نتميز بها في هذا العالم. وإن كانت هذه الأشياء من نمط الفول الأخضر…. الدنيا لا تزال بخير يا دكتور!!