ما هو داء (غيلان باريه) وهل له علاقة بلقاح إنفلونزا الخنازير؟

 



 


ما هو داء (غيلان باريه) وهل له علاقة بلقاح إنفلونزا الخنازير؟


Guillain–Barré syndrome


 


 


كثر الحديث مؤخراً عن مرض ذي اسم فرنسي لم يكن معظم الناس قد سمع به، ولكنه اكتسب شهرة ً واسعة نتيجة لارتباط اسمه بنجم الموسم بل نجم المواسم (داء إنفلونزا الخنازير) وكذلك بالنجم الأكثر منه شهرة ً (لقاح إنفلونزا الخنازير).


 


القصة


بدأت القصة عندما بدأت الإشاعات تنتشر على الإنترنت بأن لقاح إنفلونزا الخنازير يسبب داءً هو (متلازمة غيلان باريه). وبدأ حتى أولئك الذين لا يعرفون ماذا يعني هذا الاسم ومن أين أتى وماذا يسبب، بدؤوا بالشعور بالرعب وبنشر الخوف لغيرهم!! دون أي محاولة للتدقيق أو حتى للتعرّف على هذا المرض.


 


ما هو المرض؟


سنحاول أن نبتعد  عن المصطلحات الطبية قدر الإمكان، ولكن داء غيلان باريه هو عبارة عن التهاب عصبي متعدد حاد مزيل للنخاعين. ونعني بذلك أنه يزيل (غمد النخاعين) المحيط بالألياف العصبية المنتشرة في أنحاء الجسم. وهو يؤثر على الألياف العصبية المحيطية. والسبب في حصول هذا المرض هو عملية إنتانية حادة. ولهذا المرض عدة أشكال لا ضرورة للخوض فيها هنا. والمهم فهم آلية  المرض وأعراضه. وهذا المرض نادر، فهو يحصل بنسبة 1 إلى 2 لكل 100 ألف من الناس في كل عام. ويوصف على أنه شلل صاعد يبدأ في القدمين وينتشر إلى الأعلى فيصيب الوجه وأيضاً العضلات التنفسية.


 


 


من أين أتى الاسم؟


وُصِف المرض للمرة الأولى في  عام 1859، ولكن الذي حدد صفاته المخبرية والسريرية بشكل علمي كان مجموعة من العلماء الفرنسيين على رأسهم (جورج غيلان) و(ألكسندر باريه) ومن مجموع اسميهمها الأخيرين جاء الاسم (غيلان باريه). حيث قامت هذه المجموعة بتشخيص المرض لدى جنديين أصيبا به ولاحظا زيادة نسبة البروتين في السائل الدماغي الشوكي لديهما. وللمرض عدة أسماء من بينها اسم طريف هو (شلل الأطفال الفرنسي)!


 


لماذا يحصل؟


إن جميع أشكال المرض ناجمة عن استجابة مناعية لمستضد غريب عن الجسم (مثل  العوامل الإنتانية الفيروسية وغيرها). وعندما يحاول الجهاز المناعي للجسم مهاجمة هذه العناصر الغريبة يشتبه عليه الأمر فيهاجم الألياف العصبية ويؤذيها. وكأن هذه الألياف العصبية تصاب بـ (نار صديقة) عن طريق الخطأ. في الحالات الخفيفة يحصل شفاء ذاتي وسريع حيث تكتسي المحاور العصبية سريعاً بالنخاعين،  أما في الحالات الشديدة فتحصل أذية المحور العصبي.


  وأكثر جرثوم يمكن أن يؤدّي إلى حصول المرض هو نوع معيّن من الجراثيم المسماة (كامبيلوباكتر)، ومع ذلك فإن 60% من الحالات هي مجهولة السبب. وتقترح بعض الدراسات أن المرض قد ينجم عن التفاعل مع فيروس الإنفلونزا.


 


الأعراض والعلامات


يحصل ضعف متناظر في الطرفين السفليين أوّلاً، ثم (يصعد) هذا الشلل نحو الأعلى وبسرعة، ولذلك يسمى (الشلل الصاعد). وقد يترافق ذلك مع شعورخدر ونـَمَل في الساقين. ثم تصاب عضلات الوجه والذراعين ويحصل ألم عميق في العضلات التي أصيبت أعصابها. وربما حصلت صعوبة في البلع نتيجة لإصابة الأعصاب القحفية، ثم صعوبة في التنفس. معظم المرضى يتطلّبون القبول إلى المستشفى ويتطلّب 30% منهم المساعدة في التنفس عن طريق جهاز التنفس الاصطناعي. وربما تأذت ما تدعى  الوظائف الذاتية في الجسم فيحصل تقلّب في الضغط الشرياني واضطراب في نظم القلب.


التشخيص


إن الأعراض التي ذكرناها أعلاه تساعد الطبيب في الوصول إلى  التشخيص. وهنالك بعض العلامات التي يلاحظها الطبيب أثناء الفحص السريري. وربما قام الطبيب بإجراء الفحوص المخبرية وخصوصاً تحليل السائل الدماغي الشوكي من خلال استخراجه من العمود الفقري بما يدعى (البزل القطني). حيث يلاحظ ارتفاع في البروتين دون زيادة عدد الكريات البيضاء فيه. وهنالك فحوصات أخرى مثل تخطيط العضلات وفحوص النقل العصبي.


 


المعالجة


لا بد من المعالجة  الداعمة في حال حصول المرض. وربما كان القلق الأهم هو بشأن القصور التنفسي الذي يحصل في نسبة عالية من المرضى. مما قد يتطلّب جهاز التنفس الاصطناعي. وهنالك معالجات نوعية للمرض مثل إعطاء الغلوبولينات المناعي في الوريد وأيضاً ما يدعى (فرز البلازما). ولا بد من أن تبدأ  المعالجة بسرعة للحصول على نتائج مفيدة.


 


الإنذار


 


تبدأ معظم حالات الشفاء بعد  الأسبوع الرابع للمرض. وحوالي 80% من المرضى يعافـَون تماماً خلال فترة تتراوح من أشهر إلى سنة. وحوالي 5 ـ 10 % يحصل لديهم شفاء ولكن مع مضاعفات شديدة. وهنالك نسبة 4% تحصل فيها الوفاة.


 


بيت القصيد


بعد هذا العرض الطويل نسبياً، نعود إلى موضوعنا الحقيقي. من أين أتى الربط بين لقاح إنفلونزا الخنازير وداء غيلان باريه؟


بادئ ذي بدء نقول إنه لا يوجد أي دواء أو علاج أو إجراء تشخيصي في العالم خالٍ مئة بالمئة من التأثيرات الجانبية. فمثلاً الأسيتامينوفين وهو أبسط الأدوية المستخدمة لخفض الحرارة لدى الأطفال والكبار يمكن أن يؤدّي في حال استخدامه بشكل غير ملائم إلى تسمم يؤذي الكبد أذية شديدة. وحتى التخدير العادي الذي يستخدم في أية عملية جراحية وهي تحصل كل يوم قد يؤدّي إلى مضاعفات قد تصل  إلى الموت. فوجود التأثيرات الجانبية بحد ذاته لا يمنعنا من استخدام أي دواء ولا أي جراحة ولا أي إجراء تشخيصي. هذه قاعدة سارية ومستخدمة في الطب في كل يوم. وإن متلازمة غيلان باريه هي من المضاعفات النادرة جداً للقاح الإنفلونزا الموسمية (حالة لكل مليون لقاح). وهذا لم يمنع أحداً من استخدام هذا اللقاح والإقبال عليه في كل عام. علماً أن لقاحات أخرى قد تكون مسؤولة عن المرض مثل بعض أشكال لقاح شلل الأطفال.


ولكن من أين أتى الربط المبالغ به وغير الملائم بين لقاح إنفلونزا الخنازير وهذا المرض؟


في عام 1976 حصلت جائحة محدودة بمرض إنفلونزا الخنازير (وهي شكل مختلف من المرض عن الداء المنتشر حالياً). وفي ذلك الحين انتشر لقاح لذلك المرض. وحصلت حالة من غيلان باريه لكل 100 ألف لقاح أعطي في ذلك الحين. وبالتالي فقد كانت  النسبة نادرة. ولكن مع ذلك تم إيقاف اللقاح في ذلك الحين. وفي حقيقة الأمر فإن الربط العلمي بين اللقاح وداء غيلان باريه لم يكن واضحاً فإذا كنا نعلم أن مرض غيلان باريه يحصل أصلاً بنسبة 1 لكل مئة ألف من الناس في كل عام (بصرف النظر أصلاً عن اللقاح) وإذا كان المرض قد حصل في كل مئة ألف ممن تلقوا  اللقاح في تلك الفترة، فأي الحالات حصلت بسبب اللقاح وأيها كان سيحصل أصلاً دون لقاح؟  علماً بأنه قد أجريت دراسات بعد ذلك وبيّنت أن دور اللقاح في حصول حالات غيلان باريه كان ضئيلاً جداً أو حتى معدوماً. وبيّنت بعض الدراسات أن بعض  حالات غيلان باريه التي حصلت لم تكن لها علاقة باللقاح نفسه بقدر ما كانت متعلّقة بتلوّث جرثومي تعرّض له اللقاح من خلال عدم اتخاذ إجراءات التعقيم الملائمة من قبل بعض ممن قام بإعطائه.


 


ما هي الخلاصة؟


إن إعطاء لقاحات الإنفلونزا لم يتوقّف بعد التشوّش الذي حصل في عام 1976. ولم تثبت  الدراسات خلال هذه العقود كلّها علاقة علمية بين اللقاح ومتلازمة غيلان باريه. بل إن أجمل تحليل علمي ورد في هذا المجال هو أن اللقاح (يحمي) في حقيقة الأمر من داء غيلان باريه، ذلك أن الإصابة بالإنفلونزا تزيد من حصول المتلازمة واللقاح يمنع حصول الإنفلونزا وبالتالي يخفض من حصول هذا الداء الخطير.


وبالنسبة للقاح إنفلونزا الخنازير، فإن العلم تقدّم كثيراً منذ عام 1976 وأصبحت وسائل إنتاج اللقاحات أكثر رقيّاً وتقدّماً، ويسرّنا أن نقول أيضاً إن صحيفة (أخبار الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال) في عددها الصادر في منتصف شهر نوفمبر الجاري قد أعلنت بسعادة أنه بعد إعطاء أكثر من خمسين مليون جرعة من اللقاح لم يثبت حصول (أية حالة) من داء غيلان باريه ناجمة عن اللقاح. فهل يزرع هذا الكلام ولو بصيصاً من الطمأنينة في النفوس الحائرة؟ أرجو ذلك!!


 


 


 

Close Menu