النكاف (أبو كعب) والأطفال وأسطورة العقم
لقد أتينا إلى هذه البلاد منذ عام تقريباً أنا وزوجي وطفلي الوحيد. ومنذ حوالي العام أصيب طفلي الذي كان عمره وقتها سبعة أعوام بداء النكاف (أبو كعب). وجميع الأهل والأصدقاء يقولون لي إنه لن ينجب أبداً لأن النكاف يسبب العقم. أنا حزينة جداً لأن كل إنسان يحب أن يكون له أحفاد، وعلى ما يبدو فإنني لن أستمتع بهذا الأمر لأن طفلي الوحيد مصاب بالعقم الآن. كل ما أطلبه منك يا دكتور هو أن تصارحني. هل ما قاله لي الأهل والأصدقاء صحيح؟ أصحيح أنني لن أسمع أبداً كلمة (تيته) من حفيد لي ينجبه طفلي (كمال)؟
سؤال مشروع
هذا السؤال مشروع تماماً. وهو يخطر في البال كلما أصيب طفل بداء النكاف (أو أبو كعب كما يسمى في بلادنا). وهو يحتاج إلى بعض التفصيل في الإجابة. ولكن يحسن أوّلاً أن نأخذ فكرة عن المرض نفسه. ما هو النكاف؟
النكاف
هو عبارة عن داء فيروسي. وتحصل العدوى من خلال اللعاب وسوائل الجسم الأخرى (بما فيها البول). تمتد فترة الحضانة من 14 ــ 24 يوماً. ومن الجدير بالذكر أن 35% من الحالات هي تحت سريرية، أي أنه لا تظهر فيها أية أعراض. وأما الأعراض فهي عبارة عن حرارة وتعب والم عضلي وصداع ثم يظهر العرض المميّز لهذا الداء وهو ضخامة الغدة اللعابية النكفية. وهي الغدة المتوضعة بين الأذن والقسم العلوي من الفك السفلي. إن هذه الضخامة قد تحصل بشكل صاعق وسريع، ولكن عادة يزداد التضخم خلال ثلاثة أيام. الغدة مؤلمة باللمس، وهنالك علامة مميزة وهي زيادة الألم بتناول العصير الحامض كعصير الليمون أو الأغذية الحاوية على الخل مثلاً. في 75% من الحالات تكون الإصابة ثنائية الجانب، وتكون أحادية الجانب في 25% منها. وقد تصاب الغدد اللعابية الأخرى كالغدد تحت الفك أوتحت اللسان. تتحسن الأعراض عادة خلال سبعة أيام.
قبل اللقاح وبعده
نادراً ما نشاهد اليوم داء النكاف في بلد كالولايات المتحدة الأمريكية. لقد تم إنتاج اللقاح للمرة الأولى في عام 1968. وفي ذلك العام كان عدد الإصابات السنوية في البلاد حوالي 150000 إصابة. أما في العام 1987 أي بعد حوالي عشرين عاماً من بدء إعطاء اللقاح فقد كان عدد الإصابات السنوية 226 إصابة. وفي عصر ما قبل اللقاح كانت معظم الإصابات بين عمر 5 ــ 9 سنوات. أما اليوم فمعظمها يحصل في البالغين الشباب، وخصوصاً في الكليات والمعامل وغيرها، حيث تحصل الإصابات على شكل جائحات صغيرة. والسبب فيها هو عدم أخذ اللقاح. ويذكر هنا أن المولودين بين عامي 1967 و 1977 هم أكثر الناس إصابة لأن اللقاح لم يكن مفروضاً بالشكل الذي هو عليه الآن في تلك الفترة.
التشخيص
يتم التشخيص من خلال الأعراض والعلامات التي ذكرناها، كما أن الطبيب قد يلجأ أحياناً إلى الفحوص الطبية الدموية التي يتم من خلالها زرع الفيروس أو معايرة الارتكاس الدموي للجسم له. وهذه الفحوص المخبرية تساعد على تفريق هذا المرض عن التهابات العقد اللمفاوية التي قد تسببها الجراثيم أو الفيروسات والتي قد تشابه في أعراضها هذا المرض.
المعالجة
لا توجد حتى الآن أدوية نوعية تقتل الفيروس المسبب للنكاف. وبالتالي فإن المعالجة تعتمد على تسكين الأعراض بالمسكنات وخافضات الحرارة وإعطاء السوائل للمريض، مما يساعده على التخلّص من الفيروس ومن أعراضه بسرعة.
اللقاح
إن الطريقة الأمثل للتعامل مع هذا المرض هو اللقاح. فهو يقي من المرض بنسبة 97%. واللقاح الذي يعطى للوقاية من النكاف يحوي أيضاً على لقاح الحصبة والحصبة الألمانية ويسمى هذا اللقاح M.M.R.. وهو يعطى بعمر 12 ــ 14 شهراً ثم يعاد بعمر 4 سنوات. وقد تعطى الجرعة الثانية بعد شهر واحد من الجرعة الأولى في بعض الأحيان، وهذا يعتمد على الطريقة التي يعتمدها الطبيب. وفي كل مرّة نتحدّث فيها عن هذا اللقاح يأتي حديث لا بد منه، وهو السؤال الذي شغل الأوساط الطبية والشعبية منذ حوالي عشر سنوات، وهو: هل هنالك علاقة بين هذا اللقاح وبين داء التوحّد الطفلي؟ وهذا الأمر أجبنا عنه مراراً في العيادة في حواراتنا مع أهالي المرضى وكتابة ً وفي وسائل الإعلام المختلفة. لقد أثبتت الدراسات أنه لا توجد أية علاقة بين هذا اللقاح وبين داء التوحّد الطفلي. وفي حقيقة الأمر فقد شكّلت الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال وقتها لجنة لتقصي الحقائق، ولم تجد هذه اللجنة بعد الدراسة المطوّلة أية علاقة بين هذا اللقاح وبين داء التوحّد الطفلي. وللأسف فإن الأمر كل قد بدأ من خلال أحد الأطباء الباحثين عن الشهرة، والذي راح ينشر هذا الإشاعة من خلال لقاءات تلفزيونية مع محطات إعلامية مهمة باحثة بدورها عن السبق الصحفي. وفي حقيقة الأمر فقد أجريت دراسة في كندا منذ حوالي العام أثبتت أيضاً عدم وجود علاقة بين هذا اللقاح وبين التوحد الطفلي. ويبدو أن الأوساط الطبية ستظل مضطرة للنقاش في هذا الأمر لسنوات طويلة قبل أن ينتهي هذا الجدل.
المضاعفات
إن أشيع المضاعفات الناجمة عن النكاف هي التهاب السحايا. وقد يستغرب القارئ حين يعلم أن 65% من المصابين بالمرض يحصل لديهم شكل من أشكال السحايا. ولحسن الحظ فإن معظم الحالات تكون من النمط غير العرضي. أي أن المصاب لا يعاني من اية أعراض بسبب الإصابة، وهي إصابة مخبرية فقط. ولكن 10% من هؤلاء المصابين يعانون من الصداع والحرارة والغثيان وغيرها من الأعراض المميّزة للسحايا. وقد تكون الإصابة شديدة في هذه الحالات. ومن المضاعفات الأخرى هنالك التهاب البنكرياس والذي قد يؤدي إلى حصول الداء السكري على المدى البعيد والتهاب العضلة القلبية الذي قد يسبب حصول قصور القلب نتيجة للضعف الذي يعتري العضلة والتهاب المفاصل، والتهاب الغدة الدرقية المؤدي إلى قصور الغدة الدرقية بأعراضه المعروفة ، والتهاب الغدد الدمعية الذي قد يؤدي إلى جفاف في العينين الناجم عن نقص إفراز الدمع وحتى الصمم الناجم عن إصابة العصب السمعي. وقد يكون من المستغرب أن يؤدي النكاف إلى هذا الطيف الواسع من المضاعفات، ولكن الأمر الجيّد هو أن جميع هذه المضاعفات واردة ولكنها نادرة.
النكاف والعقم
ونأتي هنا إلى بيت القصيد في هذا المقال وهو قضية العقم في المصابين بالنكاف. إن من المعروف أن التهاب الخصية هو أحد مضاعفات النكاف. والتهاب الخصية نادراً ما يحصل في المصابين قبل سن البلوغ، أما في فترة ما بعد البلوغ فقد تصل نسبة الإصابة إلى 35%. ويحصل الالتهاب بعد حوالي 8 أيام من إصابة الغدة النكفية كما أنه قد يحصل دون التهاب الغدة النكفية، ويتجلّى الالتهاب بتورّم الخصية واحمرار الجلد المغطي لها وهي مؤلمة باللمس. ومن بين المصابين فإن نسبة حصول ضمور الخصية هو 30% ، ولكن الخبر الطيّب هو أنه حتى في حال حصول التهاب ثنائي الجانب في الخصيتين فإن حصول العقم هو أمر نادر. ونلاحظ إذاً أن ما يتناقله الناس من أخبار فيه الكثير جداً من المبالغة بشأن علاقة النكاف بالعقم. فالأمر وارد ولكنه نادر فعلاً بحيث لا يستحق الأمر أن نصاب بالذعر. وأما في الإناث فقد يحصل التهاب المبيض، وذلك في 7% من المصابين بالنكاف. أما العقم فلا يوجد دليل على حصوله.
وبعد
إن قضية النكاف والعقم هو أحد الأمثلة على ما يمكن أن يفعله الخيال الشعبي في المجال الطبي. إن حصول العقم في النكاف هو أمر وارد ولكنه نادر كما رأينا. ولكن الخيال الشعبي والقصص التي تتوارثها الأجيال تأبى أن تظل متعلّقة بالحكايا الشعبية كحكايات الزير سالم وليلى والذئب، ولا ترضى حتى تقدم شروحاً وإضافات في مجال مرض كالنكاف أيضاً!!