عقدة في العنق!!
الدنيا ضاقت وكأنه لم يتبقّ فيها سوى أيام معدودة.كانت تقود سيّارتها إلى عيادة الطبيب في زيارة للمتابعة كما طلب منها منذ يومين. الشوارع بدت فارغة، والسيارات الأخرى وركابها كانوا يطوون الشارع كالأشباح.
منذ يومين قال لها الطبيب: أنا لا أقول هذا لأرعبكِ، ولكنني أقوله صيانة ً لصحة (هدى).
بعد أن أنهى كلامه كانت الدنيا تدور حولها كأنها في مدينة الملاهي. أمن الضروري أن يفكر الأطباء في أسوأ الاحتمالات حتى يحافظوا على صحة المريض كما قال لها طبيبها؟ هل هذا معقول؟ الأمر كان بسيطاً جداً. هكذا اعتقدت. عقدة صغيرة بدأت بالتضخم في عنق هدى منذ أيام. ثم زاد حجمها حتى وصل إلى حوالي أربعة سنتمترات. وماذا في الأمر؟
لم تأخذ الأمر على محمل الجد. ولكن الأمور فرضت جديتها بشكل سريع. حرارة (هدى) كانت ترتفع، والعقدة كانت تتزايد في حجمها. (هدى) كانت مريضة فعلاً، ترفض الطعام وبالكاد تشرب الماء والعصير. كانت قلقة تماماً بشأن ابنتها. فطفلة عمرها خمس سنوات لا بد من أن تأكل وتشرب لتحافظ على صحتها.
أخذتها إلى طبيب الأطفال لتطمئن عليها. جوابه لم يعجبها أبداً. عندما لاحظ التعبيرات على وجهها قال لها وكأنه عرف ما كانت تفكر فيه: مهمتي ليست بالضبط أن أجعلك سعيدة! مهمتي هي أن أحتاط للأسوأ من الأمور حتى لا تحصل مضاعفات لها.
ماذا؟ الأسوأ من الأمور؟ ليته لم يكمل كلامه!!
قال لها إن الأمر قد يكون بسيطاً…. في 99% من الحالات تكون ضخامة العقد اللمفاوية عبارة عن التهاب ربما كان فيروسياً وربما كان جرثومياً. ويمكن معالجتها بالمضادات الحيوية. العقد اللمفاوية منتشرة في كافة أنحاء الجسم. وهي موجودة لتقوم بالدفاع عن الجسم. هي كالمواقع العسكرية المنتشرة في بلد ما للدفاع عنه. ضخامتها قد تكون تعبيراً عن تضخم الآلية الدفاعية في هذه المنطقة. وفي أحيان أخرى ــ تمثل معظم حالات الضخامة ــ فإن الأمر يكون ناجماً عن تضخم التهابي إنتاني. هي قابلة للعلاج كما قال لها. وليته توقف في وصفه عند الــ 99% هذه. أما كان يكفيه أن يتحدث عنها.
الطبيب لم يتوقف في حديثه عن هذه النسبة فقط.
قال لها: لا بد لي من أن أحدثك بصراحة. عندما يتعلّق الأمر بضخامة العقد اللمفاوية فإننا نفكر في الأمر البسيط وهو الالتهاب. ولكننا نفكر أيضاً في الأشياء الأسوأ. كانت عواطفها كقنبلة على وشك الانفجار. تابع الطبيب: هنالك بعض الأمراض الأنتانية النادرة مثل السل.
السل؟ لاحظ الطبيب تساؤلها يرتسم في عينيها الحائرتين.
نعم السلّ ….. أجابها الطبيب. هو من الأمراض الإنتانية النادرة والخطرة ولكنه مع ذلك قابل للمعالجة. وهو يسبب ضخامة العقد اللمفاوية إضافة إلى إصابته للرئتين. وبالتالي فإننا عندما نقارب حالة كهذه فلا بد لنا من إجراء اختبار السل الجلدي. وهو عبارة عن حقنة صغيرة تعطى تحت جلد الذراع ثم ينظر إليها الطبيب بعد يومين لملاحظة فيما إذا حصل تورم في مكان الحقن. هذا الاختبار لا بد من أن نجريه اليوم. ونضيف إلى ذلك صورة للصدر للتأكد من عدم إصابة الرئتين بالسل. المرض قابل للمعالجة كما قلت لكِ …. أضاف الطبيب. هذه العبارة الأخيرة أعطتها طمأنينة خفيفة ذات ألوان باهتة.
هنالك حالات أخرى أنتانية ــ تابع الطبيب ــ تؤدي إلى أعراض مشابهة، وتسببها جراثيم تسمى الجراثيم السلية غير النموذجية. لن أسبب لك الصداع بشرح واسع عن هذه الجراثيم، ولكن في حال وجودها فإن المضادات الحيوية لن تجدي. وإنما يكون العلاج بالجراحة.
الجراحة؟! وقعت الكلمة على أذنيها كالصاعقة. لماذا تقوم بكل هذا الشرح يا دكتور…. لم تقل هذه الكلمة بلسانها ولكن قالتها عيناها. وفهم الطبيب ماكانت تقول.
مرة أخرى اقول لك ــ أجابها ــ الأمر ليس فيه مكان للعواطف. مهمتي هي أن أتناول أسوأ الاحتمالات لأقوم بمعالجتها بشكل صحيح وباكر حتى لا تؤدي إلى مضاعفات وتأثيرات جانبية. هدفي ليس أن أجعلك سعيدة بكلماتي، بل أن أقول لك الحقيقة كاملة. بحلوها ومرّها. حاولت أن تفهم. وكان الأمر صعباً جداً.
على أنني لم أذكر لك جميع الاحتمالات بعد.
ماذا؟ كل هذا … الإنتان .. السل … الجراثيم غير النموذجية هذه التي يتكلّم عنها … هذا ليس كل شيء؟! ماذا بعد؟ ماذا لديك يادكتور؟
أجابها: في حالات نادرة … أكرر… حالات نادرة … قد يكون التضخم في العقد اللمفاوية ناجماً عن أمراض سيئة.
ماذا تعني بالأمراض السيئة؟
أجابها الطبيب: أعني بها الأمراض الخبيثة. أنا فعلاً لا أقصد أن أكون سبباً في ذرف هذه الدموع… ولكن مرة أخرى أنا يجب أن أكون صريحاً معكِ. لا أعتقد أنكِ تقبلين أن أذكر لكِ نصف الحقيقة.
لا!…… أجابته. أنا أريد الحقيقة كاملة يا دكتور… أرجو ألا تعير أي انتباه لهذه الدموع فهي دموع أم حريصة على طفلتها… ولكنها من جهة أخرى تدرك عقلياً أن معرفة الحقيقة كاملة هي الأمر الأساس في المحافظة على صحتها. أرجو أن تتابع حديثك. أي الأمراض الخبيثة تقصد؟
أجابها: هنالك الكثير من الأمراض الخبيثة التي قد تسبب ضخامة العقد اللمفاوية بشكل أو بآخر. ولكننا نعنى هنا بمرضين رئيسين: اللوكيميا واللمفوما.
يا إلهي…. هل وصل الأمر إلى هذا الحد؟ اللوكيميا واللمفوما؟ إنها لا تعرف الكثير عن هذين المرضين ولكن مجرد سماع اسميهما كفيل بإرعابها حتى الإغماء. لم يكن قلبها يريد أن يعرف شيئاً عنهما ولكن عقلها الواعي كان حريصاً على الحصول على المعلومات فطلبتها بإلحاح.
اللمفوما ــ تابع الطبيب ــ هي عبارة عن ورم خبيث يصيب العقد اللمفاوية. فكما أن السرطان قد يصيب الرئة أو العظام أو الجلد فإنه يمكن أن يصيب العقد اللمفاوية، فيؤدي إلى ضخامة فيها.
وأما اللوكيميا فهي سرطان يصيب الخلايا المنتجة لعناصر الدم … لذلك يسميه الكثيرون سرطان الدم.
أنا أكره أن أتحدث عن هذين المرضين ــ أضاف الطبيب ــ ولكن من واجبي أن أصارحك بكل ما أفكر فيه. ولعل صراحتي معك هي سبب لأن تصدقيني حينما أقول لك إن احتمال وجود أحد هذين المرضين لدى (هدى) هو قليل جداً.
لماذا تقول ذلك يا دكتور؟ سألته بلهفة من يريد أن يعرف فعلاً هذه المرة.
أجابها: لأن (هدى) لا توجد لديها أعراض أخرى توحي بأحد هذه المرضين. فهي لم تفقد وزناً في الفترة الأخيرة كما أنها ليست مصابة باندفاعات على الجسم وهي ليست مصابة بالتعرّق الليلي، كما أن فحصها السريري لا يظهر انتشار العقد اللمفاوية في أنحاء متفرّقة في الجسم. وإضافة إلى ذلك فإنها ليست مصابة بضخامة في الكبد أو في الطحال.
كل ما تقوله صحيح يا دكتور… هذا أمر مطمئن أليس كذلك؟
نعم!! أجابها الطبيب وكأنه يسكب ماءً بارداً في عروقها التي كاد أن يجففها الرعب. وتابع الطبيب قائلاً سأجري فحوصاً عاجلة للدم إضافة إلى صورة الصدر واختبار السل وسيكون لنا حديث بعد يومين. أريد منك أن تعيدي (هدى) إلى العيادة بعد يومين حتى أعاينها من جديد وفي ذلك الحين ستكون اختبارات الدم جاهزة، وسيكون بإمكاني أن أكلمك بالتفصيل أكثر عن حالتها.
………..
وصلت إلى عيادة الطبيب. لم تدر كيف ركنت سيارتها ودخلت. كانت تحاول أن تقرأ في عيني جميع الموظفات في العيادة نتائج اختبارات الدم. كل شيء كان عادياً. القلق ظل مسيطراً على أعصابها. دخلت إلى غرفة الفحص، وتبعها الطبيب بعد دقائق. كان باسماً هذه المرة.
ــ الاختبارات كلها كانت توحي بالتهاب في العقد اللمفاوية.
* والأمراض الخبيثة؟ سألته بلهفة..
ــ لم تعد واردة.
* والسل؟
ــ ليست مصابة به، فصورة الصدر طبيعية واختبار السل سلبي.
* ماذا بعد يا دكتور؟
ــ تابعي المضادات الحيوية لكامل المدة المطلوبة وهي عشرة أيام. وأرجو أن تعيدي (هدى) إلى عيادتي بعد انتهاء المضادات الحيوية. لقد بقي حوالي أسبوع على عودتك للمراجعة. نصيحتي أن تأخذيه إجازة فأعصابك قد تم شدها إلى أقصى درجات الاحتمال.
* حسناً…. أراك قريباً يا دكتور.
ــ ولكن لماذا تستعجلين لهذه الدرجة؟ على رِسلك!!
* عذراً يا دكتور…. ولكن المكتب السياحي سيغلق بعد حوالي نصف ساعة… كل ما أريده هو أن أشتري ثلاث بطاقات إلى فلوريدا…. أعصابي بحاجة إلى راحة. هل تعلم يا دكتور؟ ربما كانت وصفة الإجازة هي أفضل ما وصفته اليوم لأي من مرضاك!!